مناقشة آراء صادق جلال العظم.. الحب العذري حقيقة أم وهم؟
آخر تحديث:
شكيب كاظم
هو باحث جامعي رصين، تابعنا كتاباته منذ أيام شبابنا الأول، المدجج بالطموحات والتشوفات والعمل على تغيير العالم، إذ قرأت سنة 1969، ثلاثة من كتبه، أثار كلُ واحد منها ضجة ما بعدها ضجة، ولاسيما كتابه (نقد الفكر الديني) وألفت في الرد عليه كتب عدة، وما زلت أستذكر رأي الشيخ محمد جواد مغنية (1904-1979) الشاجب لما ورد في الكتاب، في استطلاع للرأي أجرته مجلة (الأسبوع العربي) الأسبوعية اللبنانية، فضلاً عن كتابه (النقد الذاتي بعد الهزيمة) أيام عزّها وتألقها، والتي كانت أمل العرب في تحرير فلسطين، وثالث الكتب المثيرة للجدل كتابه (مأساة ابليس). الرجل صاحب رأي، وهو ليس من الذين يعيدون الأقوال ببغاوية يحسدون عليها، وهو يحرث في أرض مغايرة في الضفة الأخرى، التي اعتاد على السير فيها، أصحاب المقولات الجاهزة، والذين يفسرون الماء بعد الجهد بالماء. أواخر سنة 1999، قرأت رابع كتبه، وهو كتاب ضخم يقع في 574 صفحة، نشره سنة 1997 مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، ومقره في العاصمة القبرصية نيقوسيا، وأعني كتابه الاستقصائي التوثيقي (ما بعد ذهنية التحريم. قراءة (الآيات الشيطانية) رد وتعقيب), والكتاب هذا، جمع فيه الدكتور صادق جلال العظم (1934-11/12/2016)، عدداً كثيراً مما كتب بشأن رواية (الآيات الشيطانية) الرواية القادحة المشاكسة للروائي البريطاني، هندي الأصل سلمان رشدي، الذي سأقرأ في سنوات تلت، روايته (العار) التي نشرتها دار الجمل بألمانيا. آخر ما قرأت من كتابات الدكتور صادق، بحثه المكثف والمركز عن الحب العذري، وأصدرته منشورات نزار قباني بطبعته الأولى في كانون الثاني يناير سنة 1968، ويقع في 128 صفحة من القطع المتوسط، وحمل عنوان (في الحب والحب العذري….).
العظم ينقي هذه الظاهرة وجدت في هذا المبحث مطبات عدة، ولاسيما حين يدرس ظاهرة الحب العذري، فهو يأتي مدججاً بفكرة نفي هذه الظاهرة في الحياة الاجتماعية عند العرب فضلاً عنها في الحياة الثقافية وقد سبقه إلى هذا النفي والشك في هذه الظاهرة ومنذ عشرينات القرن العشرين الدكتور طه حسين في أحاديثه الاربعائية والتي جمعها ونشرها في كتابه (حديث الأربعاء). يبأ حديثه بالرد على ما أورده الدكتور يوسف خليف في كتابه (الحب المثالي عند العرب) وهو بدل أن يورد نص رأي الدكتور يوسف خليف يورد لنا معنى أقواله، حيث يقول الأستاذ صادق («دَرَجَ الكتاب العرب، القدماء منهم والمحدثون، على تفسير ظاهرة الحب العذري، بنسبته إلى قبيلة عذرة التي اشتُهِرَ عنها نمط معين من الحب (….) وعلى سبيل المثال نذكر ان الدكتور يوسف خليف سلك هذا السبيل (…) حيث يقول ما معناه) تراجع ص79. وهذا لا يجوز في طرائق البحث العلمي، وهو الأستاذ المساعد في جامعة بيروت الأمريكية، يوم نشر بحثه هذا، وكان الواجب إيراد نص رأي خليف. كما أن الدكتور صادق يدرس شخصية الشاعر العذري الشهير (جميل بن مَعمَر) الذي اقترن اسمه باسم محبوبته، فأمسى يطلق عليه اسم (جميل بثينة) يعمم سلوك جميل هذا، على كل تصرفات العشاق العذريين، التي لم تصل إلينا لسبب بسيط، أن من حسن حظ (بثينة) أن عشقها شاعر يحسن صوغ الكلام وتنميقه، فتغزل بها وشبَّب، وخلد ذكرها ، لكن كيف لنا الوصول إلى سلوك العشاق العذريين الذين لم يقف عندهم تاريخ الأدب العربي، وطوى الزمانُ أخبارهم بانطوائهم؟! يؤكد الباحث صادق جلال العظم، إن بداية الحب الذي اشتجر وأثمر بين جميل وبثينة كان شجاراً، واقفاً عند قول جميل: وأول ما قاد المودة بيننا بوداي بغيض يا بثين سبابُ ترى هل كان السباب طريقاً للعشق لدى كل بني عذرة؟ الجواب واضح كلا، إذن لماذا نجعل هذا الحادث سبباً في الغرام؟! في فقرة ثانية يذكر الدكتور صادق «من المعروف ان العادات القبلية وقيود الحياة الاجتماعية عند العرب كانت تحرّم الغزل والتشبيب بالبنات، حتى إنه إذا عرفت القبيلة أن شخصاً عَرَضَ لذكر فتاة من فتياتها في حديثه أو شعره حّرّموا عليها الزواج منه، ومنعوه من رؤيتها ابد الدهر، وهنا نتساءل لماذا لم يكتم جميل حبه لبثينة إن كان يحبها ويبغي الرباط المقدس ليقدم على خطبتها. تمشياً مع الأعراف القبلية؟ عوضاً عن ان يفعل جميل ذلك راح يشبب بها ويتغزل (ـ…) فمنعا من الزواج، ولم يعد باستطاعتهما اللقاء إلا خلسة، لا شك أن جميلاً فعل كل ما بوسعه لعرقلة الوصول إلى (الرباط المقدس) مع بثينة…». تراجع ص 81. مواصلة لنهج التعميم الذي أخذ به الباحث صادق جلال العظم، فأن جميلاً الشاعر، لا يمكن ان نعامله معاملة الناس الآخرين، فإذ يتحدث الناس فيما بينهم ولا يكاد حديثهم يفشو ويذيع، لكن هذا لا يمكن ان ينطبق على شاعر، وكيف له أن يكتم حباً برى جسده برياً؟ رأي الدكتور العظم، يقوم على ان العشاق العذريين، لا يريدون تتويج حبهم بالزواج، لأن ذلك يقتل توهج العشق وتأججه، نعم قد يحصل ذلك إلى حد بسيط، لاقتران الجنس بالإثم، والإنسان آثم بالفطرة لذا نرى بعضهم يترك حليلته على الرغم من جمالها وكمالها نحو خادمة أو . أو ، مع افتقارها إلى ابسط صور الجمال. أو هي تهفو إلى سائقها أو خادمها… فالنفس أمارة بالسوء، والإنسان تلذ له المآثم والموبقات، لكن في مسألة الحب العذري، كانت تقوم إزاء تتويج هذا الحب بالزواج الشرعي موانع ومعرقلات، لا كما يقول العظم، إنهم يفتعلونها كي لا يصلوا بها إلى التتويج بالزواج، ومن أجل تعزيز رأيه فإنه يورد لنا قصة يوسف وإمرأة العزيز في مصر، فضلاً عن ظاهرة الدونجوان في الأدب الأوربي، وما أرى هذا الربط يخدم رأيه، إذ ما علاقة يوسف بذلك، وما كان يوسف من بني عذرة، وما كانت امرأة العزيز من أرض جزيرة العرب؟ والأمر ينطبق على الدونجوان والدونجوانة. ومرة أخرى يقارن تصرفات بني عذرة بتصرفات اليونانيين الواردة في (الكوميديا الإلهية) وأنه لو تزوج دانتي من معشوقته (بياتريس) لمات وهج الغرام وأمست تدعى (مدام دانتي) التي تعد له وجبات الطعام وتغسل الملاعق والصحون، وتتولى الاهتمام بأطفالها! يفترض الدكتور العظم، وهو ينقل لنا رغبة الخليفة عمر بن الخطاب أن (لو أدركت عفراء وعروة لجمعت بينهما) لكن الباحث من أجل تعزيز رأيه، بأن العذريين لا يرغبون في تتويج حبهما بالزواج، لا بل يرفض فكرة الحب العذري، يفترض ان لو ( قُضي لعمر أن يحقق رغبته يكون قد فرض على العاشقين وضعاً لا يريدانه أبداً وحالة عملا كل ما بوسعهما على تجنبها، ولا ريب ان العاشقين ما كان لينصاعا لمشيئة الخليفة، لأن تنفيذها كان سيؤدي إلى تفريغ تجربتهما (…) وتحويلهما إلى زوجين عاديين لن يذكرهما التاريخ بشيئ، إن مجرد التفكير ببثينة على إنها «حرم جميل المصون، يكفي لإفساد كل مشاعرنا المرتبطة بقصة هذين العاشقين. تراجع ص 102. كل هذه التكهنات والافتراضات يوردها الدكتور العظم، لكي تعزز وتخدم رأيه ومشاعره المرتبطة بقصة جميل وبثنية، والمنهج العلمي لا يأتلف مع التكهن والافتراض، وتوجيه الحوادث نحو ما يريد الباحث، لا كما يجب، أو كما يتوقع ان يتكون، وهو تتويج الحب بالزواج. لعل من نافل القول ان نؤكد ضرورة عرض المرويات التي ترد في كتب التاريخ وتاريخ الأدب على العقل، عقلنا الذي لا نملك سواه من يمحص ويدقق، مع يقيني الراسخ- مشيراً إلى قلة اليقينيات الراسخة لدي- أن قد طرأ عليها الكثير من الحذف والإضافة، كي تتوافق مع هوى المدون، إن افترضنا الصدق في الراوي الأول : أقول قولي هذا وأنا أجد الباحث العظم يورد روايات ضعيفة متهافتة، فتظهر لنا (أم الجسير)أخت بثينة أشبه بالقوادة، لا بل قوادة، وإلا كيف تقبل ان تنام مع أختها بثينة، وإخفاء جميل بعد ان افتضح أمره، لا بل كيف تقبل ان تخاطب فتاة هي (أم الجسير) أباها وأخاها بـ (قبحكما الله)؟! يورد لنا الدكتور صادق جلال العظم هذه المروية فهل يمكن لنا ان نصدقها؟ (كان جميل في دار بثينة، وفوجئ بمجيئ ذويها، فأقسمت عليه أن يلقي بنفسه تحت متاع البيت (…) ونامت هي كما كانت والى جانبها أم الجسير (حيث كان جميل نائماً) ثم أقبل زوجها ومعه أبوها وأخوها (…) فلما كشفوا الثوب إذا أم الجسير (…) فخجل الزوج، وصاحت أختها ليلى قبحكما الله! افي كل يوم تفضحان فتاتكما ويلقاكما هذا الأعور – تعني زوج بثينة- بكل قبيح؟) تراجع ص83.
الاستناد على روايات متهافتة ويظل الدكتور العظم يورد رواياته الضعيفة والمتهافتة ويقبلها من أجل تعزيز نظريته في العشق العذري في أنهم لا يرغبون في تتويجه بالاقتران والزواج والتذرع بشتى الحجج، وبكل ما يحول بينه وبين حبيبته ويفرق بينهما من جديد، ليشتعل العشق وتستعر نار الهيام في قلبيهما، أما لماذا سلوكهم هذا المسلك، فلا نكاد نحصل على جواب وافٍ شافٍ، كل ذلك كي يلغي ما تعارف عليه الدارسون بشأن ظاهرة حب بني عذرة. ويسرد علينا الدكتور العظم سردية ضعيفة، وهو إذ توج لنا في الرواية الآنفة الذكر، قوادة من طراز فريد، هي أخت بثينة، ليلى، أم الجسير، فإنه يقدم لنا قوادة أخرى هي (ام منظور) ولا أدري كيف ان مجتمعاً بدوياً محافظاً، كان على قرب العهد بظهور الإسلام، كيف يقترف مثل هذه الموبقات فالزوج ديوث، والأب والأخ أقرب إلى الدياثة، والأخت قوادة، تزاملها وتعاونها في أفعالها المشينة، قوادة أخرى اغفل تأريخ الأدب اسمها بل كناها (أم منظور)، ومع هذا يظل يقبل الدكتور العظم هذه الروايات التي انقلها نصاً بـ (يذهب العاشقان إلى ابعد من ذلك في خلق العوائق بينهما، جاء جميل بثينة ذات مساء فـ(…) وبقيت مع بثينة أم الجسير أختها وأم منظور، فقامت إلى جميل فأدخلته الخباء معها وتحدثا طويلاً، ثم اضطجع واضطجعت إلى جنبه فذهب النوم بهما حتى اصبحا). وأظل أتساءل عن الضمير المستتر في أدخلته الخباء أيعود على بثينة أم أختها ليلى أم… الجديدة أم منظور؟!لعل هذا البحث كان من أوائل ما كتب الدكتور صادق جلال العظم، فكان بادي الضعف، وما كان أجدره لو حجبه.