إن المعروف والثابت، واقعيا وتاريخيا، أن النظام السوري، طيلة عهد الأب حافظ أسد، واستمرارا حتى عهد الولد الوريث، قد اختار أن يحكم سوريا بقبضة مخابراتية حديدية محكمة تتسم بالعنف والترهيب والتجويع والتضييق في الحريات، واحتكار التجارة والاستيراد، والسماح لبعض أجنحته وبعض مسؤوليه بالتهريب والرشوة والفساد.
الأمر الذي جعل المواطن السوري، إن لم يكن من الموظفين الثابتين أو المتعاونين مع المخابرات، أو مع تجار العملة، أو من خدَم المهربين والمختلسين الكبار، يعاني من أزمات واختناقات معيشية وصحية متعددة متلاحقة لا تنتهي، أبرزُها شحة الأدوية والمواد التموينية الأساسية.
وكان من بعض نتائج هذه الصيغة من الحكم البوليسي المتشدد أن المواطن الذاهب لشراء دوائه من صيدلية سورية يفاجؤه الصيدلي بسؤال محرج يوشوشه في أذنه، خوفاً من آذان الحيطان: هل تريد دواءً وطنيا أم لبنانيا؟.
وفي أغلب الأحيان كان المواطن الراغب في الحصول على دواء أكثر جودة، والقادر على تحمل أسعاره الباهظة يقبل بالمغامرة ويوافق على الدواء اللبناني المهرب. وكان هناك وسطاء وسماسرة مسموحٌ لهم بالتهريب يسافرون، يوميا، إلى لبنان لشراء الأدوية والأغذية ولوازم العيش الأخرى المطلوبة ويعودون بها لتوزيعها على الصيدليات والدكاكين التي طلبتها ودفعت ثمنها مع العمولة مقدما.
ويتذكر اللبنانيون أنواع المُهرَّبات التي كان جنود قوات الردع السورية يحملونها معهم بسياراتهم العسكرية وهم عائدون من لبنان، والتي كان أغلبُها أدواتٍ كهربائية، وأغذيةً معلبة، وأدوية، ومشروبات ممنوعة، وأجبانا فرنسية ولبنانية، وربطات خبز، وغالونات بنزين محسن.
ومعروف عن اللبنانيين، عموما، أنهم أسبق العرب وأكثرهم ميلا إلى الحداثة والديمقراطية والعلمانية. ويُسجل لهم أنهم جعلوا بلدهم الصغير مضافةً كريمة لكل هارب من وطنه الخربان، ولكل عاشق للحرية والانعتاق، حتى برز منه كثيرون من أصحاب الأقلام التنويرية المتحررة وعمالقة المدارس والنظريات الفكرية الثورية التقدمية حملت منجزاتُهم الخالدة رائحةَ لبنان، بحرِه وجباله، ومقاهيه، ومنتدياته الثقافية الشهيرة، ومهرجاناته الرحبانية، ومطابعه الأحدث ما في العالم، ودُور النشر العريقة الرائدة التي لم يكن ينافسها في الجودة والأناقة والجمال ومهارة التوزيع أيُ عربي آخر، قط.
ولبيان حجم النكبة اللبنانية التي تسسبب فيها حزب الله لهذا البلد الجميل نُذكركم، قراءَنا الأعزاء، بأن سعر الليرة اللبنانية في العام 1975 كان ليرتين وثلاثين قرشا فقط للدولار الواحد، وفي 1984 بلغ ست ليرات ونصف الليرة، واليوم تجاوز سقف الـ 15,000 ليرة للدولار الوحد، وعندكم الحساب.
هذا ما كانَه لبنان الأمس، وهذا ما أصبحَه اليوم. فالأطباء والمرضى اللبنانيون وذووهم الذين تمنّوا الهجرة ولم يُرزقوا بها يتظاهرون يوميا غاضبين يشكون من عدم توفر الأدوية والأجهزة الطبية في المستشفيات والمستوصفات والصيدليات، ويطالبون بحليب الأطفال، ويلعنون المتلاعبين بأسعار المتوفر القليل منها التي تعدَّت حدود المعقول والمحمول.
ففي جهد دؤوب ومنظم وممنهج تمكنت إيران، في بضع سنوات، من تحويل لبنان الأمس العزيز الكريم السعيد إلى لبنان اليوم الحالم بحبة دواء وصحن تبولة وموال أوف وموليّا.
ومثلما استخدَم النظام الإيراني سياسة تفكيكِ الدولة وزراعةِ السلاح المتفوق على الجيش فملَكَ العراق ووضعه في جيبه الصغير، فقد اتبع نفس الأسلوب التفكيكي مع الدولة اللبنانية، ونجح في تمزيق وحدة شعبها وإفقاره وإذلاله وتهجير الكثيرين من أبنائه، ليضع حزب الله في موقع الحاكم الفعلي الأعلى وصاحب القرار الأخير.
وتاريخيا أسست إيران حزب الله في أوائل الثمانينيات بذريعة تحرير جنوب لبنان، وأرسلت 1500 من عناصر الحرس الثوري عبر سوريا التي كانت تحتل لبنان، يومها، لتدريب قواته على الحروب، وأمدته بالمال والسلاح، حتى أصبح دولة داخل الدولة، وصارت مليشياته أقوى من جيش الدولة، ثم هيمن على مطار بيروت الدولي، والميناء والحدود، وفرض وصايته على أجهزة الأمن والتجارة والخارجية والاقتصاد.
وفي تموز/يوليو 2012، قال حسن نصر الله، لأول مرة، على شاشات التلفزيون إن” موازنة حزب الله ومعاشاته ومصاريفه وأكله وشربه من الجمهورية الإسلامية في إيران”، “منذ العام 1982″، و”لا يستطيع أي قانون أن يمنعنا من ذلك”،
ولإجبار المواطن اللبناني على قبول الأمر الواقع الجديد عمد الحزب إلى سياسة الاغتيال والخطف والاعتقال الكيفي والإخفاء القسري والتهديد بالقتل لبلوغ أهدافه السياسية المرسومة له بدقة في طهران.
وكانت جريمة اغتيال رئيس الوزراء الشهيد رفيق الحريري فاتحة مسلسل الاغتيالات الطويل الذي راح ضحيتَه العشراتُ من السياسيين والمثقفين والصحفيين والعسكريين اللبنانيين.
ناهيك عن عمليات التفجير التي نفذها الحزب ضد الهيئات والسفارات العربية والأجنبية، وحملات التضييق والطرد التي شملت المقيمين العرب والأجانب، ومنهم مستثمرون ورجال أعمال كانوا يتخذون من لبنان مركزا لصادراتهم واستثماراتهم، وصولا إلى تفجير ميناء بيروت الذي راح ضحيته 150 بريئا ومئاتُ المصابين والمتضررين. ثم ختم حزب الله منجزاته الجهادية بشحنة الرمان الملغوم المحشو بالمخدرات.
وكانت النتيجة الطبيعية لهذا التاريخ الطويل من تعطيل المؤسسات ونشر الفساد والرشوة وتهريب السلاح وزراعة المخدرات، وتصنيع المفخخات وتهريبها إلى الخارج، وتزوير العملة وغسيل الأموال أن فُرضت على الشعب اللبناني هذه العزلةُ العربية والدولية السياسية والسياحية والاقتصادية الخانقة.
وفي هذه الأجواء المظلمة الخانقة يخرج علينا المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي، ليعلن أن “الولايات المتحدة تراقب عن قرب تصرفات إيران السيئة في المنطقة، وفي الأبعد من المنطقة، بما فيها الصواريخ والإرهاب وإعاقة الملاحة الدولية”.
ويتبعه قائد القيادة المركزية الأميركية، كينيث ماكنزي، ليؤكد أن “التواجد في المنطقة هدفه منع إيران من التمادي في أنشطتها الخبيثة”.وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وكندا واستراليا، جميعُها، تدين حزب الله، وتصف النظام الإيراني بأنه أكبر داعم للإرهاب، وتهدد بنفاذ صبرها.إذن فلنا أن نسأل هؤلاء، أجمعين: متى ستفعلون ما لا تفعلون؟.