مهنة الوعي

مهنة الوعي
آخر تحديث:

طالب عبد العزيز 

 في مرحلة ما من حياة الإنسان يتملكه حلمٌ بأنَّه سيكون قادراً على المساهمة في صنع مستقبل آمنٍ له، وللآخرين. ستكون معالم الفكرة هذه واضحةً عند مَنْ تجاوز الاربعين والخمسين، لكنه، في الستّين سيجدُ الحُلم ذاك قد انتهى، ولا سبيل لتحقيقه. ستبدو الحال هذه واضحة بجلاء عند المفكر والكاتب والشاعر والفنان وسواهم، ممن امتهنوا الوعي على طريق الآمال الكبيرة. في العمر هذا سيكون الانسانُ الاقربَ الى نفسه، وعالمه الخاص، من أيِّ شيء آخر، فيدخل عميقاً في ذاته، بما يشبه النكوص، يراقبها، بعيداً عن طموحات الشباب، واندفاعات المراهقة، في الفكر بخاصة، فيكتب حقيقةَ وجوهرَ ما هو فيه وعليه، وسيكون الأصدق.

   ربما كنت قرأتُ مثل هذه في كتبٍ وأحاديثَ لآخرين، أو أنّها كانت لي ونسيتُ دعوتها، لستُ متأكداً، فقد تجاوزتُ الستين بسبع، وتشابك في ذاكرتي ما قرأتُ وكتبتُ، وبحسب بورخيس فإن «المصادفة التافهة والمجانية هي التي تجعل منك قارئا لهذه التمارين وتجعل مني مؤلفا لها»، لكنَّني في واقع الامر أشعرُ بذات الشعور، وأجدني محبطاً تماماً، وأعمل داخل نفسي، لا خارجها، وكل ما يحيطني يتخلصُ مني. وفي جردةٍ سريعة، لِما سوّدتُ من صفحات، أرى بأنَّ ما كتبته اعتقاداً منّي في صنع المستقبل لا يشكل شيئاً، بل، ولا أهمية له، ربما لأنني تعجلتُ تجاوزَ الاربعينَ والخمسينَ تلك، واستوتْ سفينةُ خلاصي على جودي يقينها ويأسها معاً.

  يقول بورخيس بأن «الانسان هو الكائن الوحيد الذي يلتفتُ الى هرمِه وعجزه»، ربما تأتّى الاحساسُ هذا له من فقده المتدرج لبصره، حيث لم يعد يرى ما حوله، وباتت الحياة لديه مجرد صفحة في كتاب قرأه ذات يوم، الامر الذي قوّى فيه عالمَه الداخلي، لكنْ إذا كان بورخيس قد تلفتَ متفقداً عجزهُ ومتعة الالوان، واكتفى بالابيض والاسود، أو ربما بالاسود فقط، فماذا عنّا نحن، المبصرين، الذين لم نعد نرى في الالوان الكثيرة إلا ما يمثّل النهاياتِ (الابيض والاسود) أقصد؟ هناك، الكثير الذي يجبُ علينا المجاهرة به، والقول الفصل بحقيقته، فالكتابة لا تعني تكفين المواجع. 

  وهنا، لا أرى في رؤيا بورخيس بأنَّ الحياةَ مكتبةٌ كبيرةٌ، أو هي الفردوس، كما في بعض تفاسير جملته الشهيرة هذه، بقدر ما هي «كتاب كبير نُسخَ مرات عدة» بتعبير البيرتو منغويل. فطوابقُ وأروقةُ وأرففُ مكتبة بورخيس الكبيرة ستنتهي في زاوية ما، من الحجر أو الخشب أو الخيبة. هل أجرؤ على القول بأنَّ الحياة نهرٌ، ابتدأ ذات يوم في التاريخ، ثم استمر بالجريان، وكبرَ، ثم كبرَ، وتعددَ، فالماء يدخل النَّهر الذي خلف نافذتي كان قطرةً، في نبع أعلى الجبال، تسربت عبر نهرين طويلين، دخلت قرى وضواحي كثيرة، انتهت بنهر واحدٍ، إنشق عن انهار صغيرة، تلاشى بعضُها، سدَّ الترابُ صدورها، ولم تعد إلّا رسمة في كتاب. 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *