يجتهد السياسيون العراقيون في إدامة الفوضى، لديهم طاقة فائضة موجهة لاستشعار مكامن الخراب والتأسيس عليه، كيّفوا أنفسهم على التنفس جيداً وسط العواصف الرملية، وأبخرة الإطارات المحروقة، ورائحة البارود، حتى أن فرضية الأجواء النظيفة باتت تشعرهم بالخطر.يعرفون المواسم ويجيدون التعامل مع بذرها وحصادها، ومع ان تزامن موسم تشكيل الحكومة، مع موسم التظاهرات التموزية، قد يبدو للوهلة الاولى وكأنه يهددهم، لكن واقع الحال أن قدراتهم الفذة على ابتكار الحلول، والتكيف مع المخاطر، تمثل حالة فريدة جديرة بالدراسة!.
عندما ظهر تنظيم «داعش» لبس السياسيون «الكاكي» وحملوا مسابحهم وكاميراتهم لالتقاط الصور، أنبأتهم غريزتهم بأن «داعش» فرصة مواتية للقفز على أكتاف وجراح وعذابات الملايين من العراقيين الذين ابتلعتهم الحرب، أو شردتهم، أو ختمت قسوتها على أجسادهم وأرواحهم.
وعندما انتهت الحرب أو كادت، كان المقاتلون يتلمسون «الغنغرينا» في جراحهم، والنازحون يتفقدون خرائب منازلهم، فيما كان السياسيون يعقدون اتفاقات التمويل لحملاتهم الانتخابية، ويفتحون مزاد بيع الوزارات والمناصب قبل شهور من افتتاح صناديق الاقتراع.
كان بإمكانهم في لحظة ظهور النتائج، أن يلبسوا أقنعة الديموقراطية، يشتكون من تعرض إرادة الشعب للتزوير، ويتباكون على سرقة أصواتهم، ويصوغون الخطابات الكبرى عن العراق الذي تبتلعه مافيات الحروب وعن زملائهم الذين استولوا على حقوق الشعب وعن الفساد وقانون الانتخابات غير العادل، لكن الموسم لم يدم طويلاً، فسرعان ما صمتوا، لافتتاح موسم زيارات التشاور لتشكيل الحكومة، صبغوا شيباتهم، وارتدوا بدلاتهم الباهظة، لتبادل ولائم رمضان… لم يضطروا إلى تقديم الاعتذار بعضهم إلى بعض على الأقل حول حفلات الشتائم والاتهامات التي حفلت بها الشهور الماضية، فثمة اتفاق عام بأن الموسم عندما يبدأ يجبُّ ما قبله.
لم يكن مفاجئاً ان يتراصف السياسيون مع اشتعال فتيل تظاهرات البصرة، لاتهام الشباب المتظاهرين بأجندات خارجية وبالتخريب والبعثية والداعشية والماسونية، ولم يكن غريباً أن تتحول مواقفهم بعد أيام في اللحظة التي أعلن فيها المرجع الأعلى علي السيستاني دعم التظاهرات، فيتقافزون إلى الشاشات لإعلان تضامنهم مع الثائرين، يلعنون الفساد وأهله، ويتصدرون المعارك ضد الحكومة التي لم تنجح في توفير الكهرباء.
عندما كانت موجة الصدر والعبادي عالية لحظة ظهور النتائج، تلقى الرجلان تأكيدات فردية وجماعية من 200 نائب على الأقل من كل الكتل، باستعدادهم لترك كتلهم السياسية والالتحاق بالكتلة الأكبر فيما لو رفض زعماؤهم الانضمام إليها، وعندما علت موجة المالكي والعامري والخزعلي حزم النواب أنفسهم أمتعتهم لتأكيد أنهم سينضمون إلى الكتلة الجديدة ولو رفض زعماؤهم.
هذا النوع من المسرحيات لا يمكن أن يكون مضحكاً، فالنواب يستلهمون قيم «التقلب» وغياب الرؤية والثوابت وانعدام البرامج والأهداف من زعمائهم، الذين يجادلون في المناصب وقيمتها، ولا يتذكرون أن شعباً كاملاً ينوء تحت الظلم والحيف والهدر خلف أسوارهم، إلا عندما تكون ثمة مناسبة ليتذكروا. كانت المناسبة أخيراً أن السيد السيستاني طرح شروطاً لتشكيل الحكومة، وتحدث بلهجة احتجاجية عن غياب القوانين الحاكمة، وتقسيم الوزارات على أساس المكاسب الحزبية، وانعدام الشفافية، وتكالب الأحزاب على أموال الدولة، فسارع السياسيون إلى التفنن في كتابة بيانات التأييد، وإعلان التزامهم بتوجيه المرجع.
لكن إعلاناتهم وبيانات تأييدهم لا تتعدى «ثرم البصل» أمام عيون الناس، لأن القبول بحكومة مهنية تحارب الفساد، وتستثمر الثروات، وتنتصر لاحتياجات السكان، وتعيد بناء العلاقات الخارجية على أسس التوازن والمصالح العراقية، يمثل انتحاراً معلناً لهم، تماماً كالتخلي عن حصصهم من الوزارات والعقود والصفقات التي أبرموها سلفاً مع الشركات لامتصاص أموال مؤسسات الدولة.
محنة كبرى أن يرتبط خروج العراق من فخ العوز والتخبط والفوضى، بانتحار معلن وإرادي لأحزاب تعيش على المحن، ومحنة أكبر أن يراهن زعماء الكوارث على أن الفوضى ستستمر إلى الأبد، وأن الاحتجاجات ليست رسالة تحذير شعبية واعية بطعم الدم المراق في ساحات التظاهر، بل مجرد نزوة تموزية طارئة تمكن معالجتها بـ «ثرم البصل».