يظلّ التأخر في إقرار نشيد وطني عراقي هو التعبير الرمزي الأكثر وضوحاً عن مشكلة فشل الحياة السياسية في الوصول إلى تشريعات دستورية تلبي متطلبات الحاجة الفعلية للعراق والعراقيين وتتجاوز خانق الانقسامات التي عصفت بتلك الحياة منذ 2003.قبل 2003، وفي ظل أنظمة حكم شمولية تعاقبت على العراق منذ تأسيس دولته الحديثة، لم تواجه التشريعات مشكلات كالتي تواجهها حالياً بعد عراق ما بعد 2003، الطبيعة الشمولية نفسها كانت تساعد على بلوغ التشريعات بيسر وسهولة. هذه من امتيازات الشمولية، ولكنها، وبنسختها العراقية، ظلت امتيازات غالباً ما جري استخدامها بكثير من الجهل وعدم الشعور بالمسؤولية، وبالكثير من التساهل والتفريط بالحس الوطني، ولعل تاريخ النشيد الوطني العراقي هو التعبير العملي عن هذه المشكلات مجتمعةً. فمن النشيد الوطني الملكي، وهو نشيد موسيقي بلا كلمات حتى نشيد موطني، وهو نشيد ثوري، بقيت الملامح الأصيلة الوطنية العراقية ضائعة، وظل يغيب معها الشعور بالمسؤولية.أقدم الأناشيد، النشيد الملكي، قفز على مشكلة الكلمات، فكان موسيقياً صرفاً ومن إعداد ضابط بريطاني، بينما الصدفة وحدها هي ما الجأت الجميع من بريمر حتى أعضاء مجلس الحكم، لاختيار نشيد موطني، وهو نشيد أكثر تمثلاً وتعبيراً عن المعاناة الفلسطينية وعن ثورية الإرادة الفلسطينية. الأشقاء الفلسطينيون أكثر منا حاجةً إلى هذا النشيد، في مرحلتهم الراهنة في الأقل، وهم الأحقّ به. إنه نشيد اضطرار بالنسبة لنا، بقينا نداري به فشل السياسة التشريعية وعجزها عن التفاهم ما بينها وانصرافها عن تفهّم الحاجة الوطنية وتقديمها على انقساماتها السخيفة معظم الأحيان. الطابع الحماسي المدرسي لنشيد (موطني) لم يعد ينسجم مع المعايير اللازمة لنشيد وطني من المفترض به أن يكون عابراً على كل ما هو آني، بينما (موطني) نشيد غارق بمحن الحاضر العربي والفلسطيني بشكل أخص، منظوراً إليها بحماسة ثورية. وحتى في حال غياب أية مشكلة أو طبيعة آنية في هذا النشيد فإنه ما عاد مناسباً مزاحمة الفلسطينيين عليه، ولا مناسبا تجاهل الطبيعة الوطنية العراقية اللازمة للنشيد، سواء من حيث موضوعه أو من حيث مؤلفه وملحنه. *** ومن المعروف أن هناك قصيدتين موضوعتان بين ملفات لجنة الثقافة والإعلام في مجلس النواب، ومن المرجَّح أن مقصورة الجواهري (سلام على هضبات العراق وشطيه والجرف والمنحنى) كانت قد باتت في بعض دورات مجلس النواب الأقرب إلى الترشح لتلحينها من منافستها، وهي قصيدة لبدر شاكر السياب. لكن حتى هذه القصيدة الجواهرية لم يجر التعامل معها بجدية تشريعية فبقيت هي أيضاً حبيسة أدراج وملفات لجنة الثقافة والإعلام. في مرة سابقة كنت قد كتبت منحازاً إلى أبيات الجواهري المختارة من مقصورته، إذ وجدت فيها (البساطة) الممكنة والتي تساعدها لتكون نشيداً وطنياً. كان هذا قبل أكثر من سنتين، وكان ذاك رأياً محكوماً بالرغبة بالظفر بنشيد وطني جديد. ومقصورة الجواهري نفسها هي قصيدة متدفقة بمشاعر جياشة وبإيقاع أكثر جيشاناً وبما يجعلها واحدة من القصائد الأقرب إلى الجمهور المفتون بأبي فرات من جانب وبالتعلق بأي إنشاد يستعيد الطبيعة العراقية. لكن هل يكفي كل هذا لتكون القصيدة، أية قصيدة قريبة من هذا التصور وهذه الطبيعة الشعرية التي كانت عليها مقصورة الجواهري، نشيدا وطنياً؟ لا أتوقع ذلك. الجواهري نفسه لو كان حيّاً، وطُلب منه نشيدٌ وطني لكتب نصاً آخر غير هذا النص الجميل إنما المكتوب بهاجس شعري آخر غير هاجس أن يكون نشيداً وطنياً. لا أقف عند طبيعة جانب من قاموس الأبيات، وهو جانب ما عاد متداولاً ولا مألوفاً لناس هذا الزمان، ولا أقف عند تركيز الأبيات، بجانب أساس منها، على الطبيعة والشجر، وعلى تعبيرات إنشائية عامة، الأهم الذي تفتقد إليه هذه الأبيات، كنشيد وطني، هو النظرة الحضارية الشاملة واللازمة في نشيد وطني لبلد مثل العراق بحضاراته والمدعمة بلغة وتعبير يكونان بتماس حيوي مع الحياة المعاصرة وتطلعات ناس هذا العصر.لا يقدح هذا شيئا في شعرية الجواهري، بل هذا امتياز. لم يكتب الجواهري نصوصه تحت هاجس الرغبة في أن تغنى. شعر الغناء والإنشاد له ميزاته التي قد تملي عليه التساهل بمزايا الشعر لصالح مزايا الغناء. من هنا كان غير مبرر أن تكتفي لجنة شكلها مجلس النواب قبل سنوات بمجرد البحث في دواوين عدد محدود من الشعراء العراقيين. في مثل هذا الدواوين لن يجد المرء ضالته، لن يعثر على قصيدة تصلح نشيداً وطنياً. هناك خصوصيات مهمة، تعبيرية وفنية ولغوية، للنشيد الوطني يجب أن تكون في وارد تفكير الشاعر وهو يكتب نصاً ليكون نشيداً وطنياً. لا أدري لماذا امتنعت اللجنة عن تشكيل مسابقة لاختيار نص يصلح ليكون نشيدا وطنيا. من الخرافة أن النشيد الوطني يجب أن يكون لشاعر كبير. في تجارب دول كثيرة لا نصادف مثل هذا التخصيص.من الممكن دعوة جميع المواطنين، وليس الشعراء حصراً، ليجربوا كتابة نشيد وطني في إطار مسابقة كبرى مفتوحة للجميع. من الممكن، بل يجب، أن لا تكون هناك جائزة مادية في هذه المسابقة. الجائزة الاعتبارية التي ينالها صاحب النص، حين يجرى الاستقرار عليه، لا تقدّر بقيمة. فلماذا هذا الفيتو الذي وضعته اللجنة أمام الشعراء الأحياء، وعموم المواطنين، من يمتلك حق منع أحد في أن يتنافس؟ لماذا فوضت اللجنة نفسها بالاكتفاء بمجرد البحث في دواوين عدد محدود من شعراء لا جامع بينهم سوى أنهم، يرحمهم الله، موتى. أتوقع أن اللجنة أرادت، بمثل هذا التقييد، أن تتفادى إحراجات متوقعة. لا أعرف بالضبط من كانوا في اللجنة، لكني أعرف ضرورة أن تكون مثل هذه اللجنة متنوعة من خبراء وعارفين بالشعر والموسيقى وعلم النفس والفكر والتاريخ. لا يكفي أن تكون من شعراء أو نقاد أو أكاديميين. تستطيع لجنة الثقافة والإعلام في البرلمان المنتخب النهوض مبكرا بهذه المهمة. الظرف السياسي الأكثر استرخاء حاليا يساعد على جدية التفكير والعمل من أجل الخروج بنشيد وطني يمكن لتلاميذ المدارس الابتدائية ولعموم العراقيين حفظه وترديده والاعتزاز به كنشيد جامع للعراقيين ومحفز للروح الوطنية فيهم.لقد تأخر البرلمان كثيرا في هذه المهمة. وما أكثر ما ظل البرلمان متأخراً.