بغداد/شبكة اخبار العراق- إنَّ غياب المفكر محمد أركون( 1928 – 2010) سيؤدي بلا شك إلى تراجع في التبادل على الصعيد المعرفي والثقافي بين العالم الإسلامي والغرب، لقد انخرط أركون منذ ربع قرن في مشروع نقد العقل الإسلامي، فكان نصيبه التكفير والنبذ الرسمي، حاول المواءمة بين القرآن والتاريخ، بين الإسلام والحداثة، مفكّكاً الأطروحات الاستشراقية. عمل طوال حياته على أن يُقرأ التراث الإسلامي- العربي من خلال منهج حديث خصوصاً في كتبه الكبرى: (ملامح الفكر الإسلامي الكلاسيكي)، و(دراسات في الفكر الإسلامي).لقد كان صاحب أكثر القراءات المعاصرة جرأة وتجديداً للفكر العربي الإسلامي. فقد كان أركون أحد الجسور الرئيسة التي يتم التبادل المعرفي من خلالها مع الغرب، ربما سيؤدي غياب أركون، المفكر التنويري والإصلاحي إلى خفوت حركة استنباط للمعرفة العلمية والفلسفية والمراجعات الفكرية العميقة، لقد فقدنا بغياب أركون صاحب أول منهج نقدي ومعرفي شامل، أحد رموز العقلانية والانفتاح على كل الحضارات.يُعدُّ أركون أحد أهم المفكرين المعاصرين الذين ينتمون في أُصولهم إلى الوسط العربي الإسلامي. وأركون إذ يعلن نفسه مؤرخ فكرٍ، فإنه يقدم لنا مشروعاً نقدياً كبيراً أطلق عليه اسم (نقد العقل الإسلامي) والذي يهدف من خلاله إلى بيان تاريخ الفكر العربي الإسلامي.غادر أركون الجزائر إلى باريس عام 1954 لتعلم منهجية البحث على يد مستشرقين كبار من أمثال شارل بيلا، وهنري لاوست، وأساساً بريجيس بلاشير المتخصص في فقه اللغة، والذي تعلم منه منهجية تحقيق النصوص وتدقيقها ودراستها على الطريقة التاريخية الوضعية.انخرط في تهيئة أطروحة الدكتوراه، حول الممارسات الدينية في منطقة القبائل الكبرى، حيث ترعرع أركون وسط تلك الجبال، وكان المشرف جاك بيرك، ولكنه فجأة ودون سابق إنذار تراه يتحول إلى القرن الرابع الهجري ليتوقف عند (نزعة الأنسنة في الفكر العربي الإسلامي).عند سماعه محاضرة للوسيان فيفر، من هنا عقد العزم على دراسة كل من مسكويه (932 – 1030) ورفيقه أبي حيان (923 – 1023).ينظر كثير من النقاد والمتابعين لفكر أركون بأنه متأثر بابن رشد، بل إنه يوصف بمكمل مشروع ابن رشد، ولكن أركون دائماً كان يحيل على التوحيدي، فالتوحيدي يمثل بالنسبة لأركون إحدى اللحظات الأساسية في تاريخ الفكر الإسلامي.ويبقى مشروع (الإسلاميات التطبيقية) أهم ما تناوله أركون في مؤلفاته، وتعني الإسلاميات التطبيقية قراءة ماضي الإسلام وحاضره انطلاقاً من تعبيرات المجتمعات الإسلامية ومطالبها الراهنة وذلك من خلال تطبيق منهجيات العلوم الإنسانية (والاجتماعية) ومصطلحاتها على دراسة الإسلام عبر مراحل تاريخه الطويل.ويبين أركون كيف أنه قد استوحى تسمية الإسلاميات التطبيقية من كتاب لروجيه باستيد بعنوان: الأنثربولوجيا التطبيقية وكيف أن البحوث التي يقدمها تسير في الخط نفسه.لقد حاول أركون أن يقطع به مع (الإسلاميات الكلاسيكية) التي كرستها كتابات المستشرقين أهم إنجازاته الفكرية. فبعدما اهتم في الستينات من القرن الماضي بمنهجية الألسنيات، وبالضبط التحليل الألسني التفكيكي، الذي قرأ على ضوئه القرآن والسيرة النبوية ونهج البلاغة ورسالة الشافعي وسيرة الشيخ المفيد، عدّد أركون مناهجه محاولاً الانخراط في فحص نقدي عميق للتراث العربي الإسلامي.كثيفة هي المناهج التي اعتمد عليها صاحب (الأنسنة والإسلام، مدخل تاريخي نقدي). والأكيد أن تجربته المعرفية في فرنسا فتحت له الأبواب الموصدة، بمعنى أنه استخدم العلوم السوسيولوجية، وعلم الإسلاميات التطبيقية، وأدواتها في الأنثروبولوجيا والألسنيات والإبستيمولوجيا، لمقارعة الأرثوذكسية- أي العقل التقليدي والعقل الخادم الواقع تحت سيطرة العقيدة التقليدية.إذ يرى هاشم صالح أنّ المقصود بالأبستمولوجيا هنا (Epistemologie) علم نظرية المعرفة، أو فلسفة المعرفة، أي ليست المعرفة بحد ذاتها، وإنما الشروط الأولية التي تجعل المعرفة ممكنة الوجود أو صالحة. وأركون هنا يدعو إلى إبستمولوجية جديدة مضادة للإبستمولوجية الماضوية أو الكلاسيكية. وهي إبستمولوجيا نقدية، أي مستعدة للعودة إلى خطاها باستمرار من أجل أخذ العبر وتصحيح مسارها وأخطائها إنها إبستمولوجية منفتحة ومتحركة لا مغلقة أو جامدة.استطاع أركون بما يملك من إرث ثقافي ومعرفي أن يتبوأ مركزاً أكاديمياً على المستوى العالمي، ومن خلال أبحاثه القيمة ابتكر اختصاصاً أشرف على تدريسه شخصياً هو (الإسلاميات التطبيقية).كان يفرض هيبته حتى على كبار أساتذة الجامعة الفرنسية في الملتقيات والندوات والمؤتمرات، لقد كان أركون ذا منهجية واضحة، ومصطلح دقيق، وعلم مكين. وكان متشدداً صارماً، مع نفسه ومع الآخرين.أراد أركون تعميم المعرفة على الإنسانية ككل بغض النظر على الانتماء الديني والجغرافي، وأراد إشراك العامة في فهم للنصوص وعدم حصرها بالنخب الفكرية، عَمِلَ أركون على احترام ثقافات الشعوب وعاداتها من خلال تعميق الثقافة المشتركة بين البشر، استحضر الشروط المختلفة سيسولوجياً وأنثروبولوجياً بمختلف أنواعها في تأملاته ومراجعاته النقدية وهذا الأمر غير متعارف عليه في مراحل سابقة قبل أركون، الأمر الذي جعل من فكره أن يبدو غريباً وشروطه النقدية تبدو شديدة الجرأة.دعا أركون إلى مراجعة نقدية علمية ومتخصصة للعقل الإسلامي، وذلك للوصول إلى نتائج عميقة لفهم النصوص ضمن السياق العام والابتعاد عن تشويه تلك النصوص وإخراجها بصورة أصيلة تليق بها. يبدو من خلال دراسة فكر ومنهج أركون أنه يتميز باستقلالية خاصة، وأُطر فكرية تبدو معقدة بعض الشيء، وهو الذي تشرّب من أفكار الغرب دون أن يُسقِطْ من حساباته انتماءه الإسلامي الذي بدا مدافعاً عنه من خلال رفضه للتظليل في دراسة النصوص واستخراج ما يفيد الإنسانية بشكل عام بعيداً عن الفئوية.لقد أسس أركون لدراسة أعمق وانفتاح على كل المعارف وابتكار نوع من النقد الذي يستند إلى أسس عقلانية معرفية وعلمية.لقد بدأ محمد أركون فيلولوجياً محترماً، في كتابه عن مسكويه (نزعة الأنسنة في الفكر العربي)، لكنه ما لبث في أواسط السبعينات أن نقد الاستشراق، وأطلق ما سماه (الإسلاميات التطبيقية). وهي نظرية طبقها على نصوص في القرآن، وما شابه. أما في الثمانينات فنلحظ عنده نضوج تحطيم الدوغمائيات والهجوم على الأرثوذكسية السنية.. وفي السنوات العشر الأخيرة، عدل موقفه بعض الشيء، كتب عن ابن رشد وابن سينا وابن خلدون.. مشكلة أركون كما يقول المفكر اللبناني البارز، رضوان السيد: (مشكلته تحديداً في نضاله الذي حوّله إلى داعية علماني متشدد، مثل الإسلاميين المتشددين، لذا كان الإسلاميون يكرهونه ويكرههم).قيل عن أركون بأنه رمز من رموز الإصلاح الديني الإسلامي، وثمة من قال إنه دشّن ثورة فكرية كبيرة في تاريخ الإسلام، كان أركون ذلك الفيلسوف التنويري التحرري الهادئ حيناً والثائر أحياناً أخرى.يقول محمد أركون: (إن العقل الذي نحلم بظهوره هو عقل تعددي، متعدد الأقطاب، متحرك، مقارن، انتهاكي، ثوري، تفكيكي، تركيبي، تأملي، ذو خيال واسع، شمولي، يهدف إلى مصاحبة أخطار العولمة ووعودها في كل السياقات الثقافية الحية حالياً، أي في كل الثقافات البشرية المعاصرة).
محمد أركون سيرة ومؤلفات
من اهم مؤلفات محمد أركون: الفكر العربي، تاريخ الجماعات السري، من فيصل التفرقة إلى فصل المقال، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، الإسلام أصالة وممارسة، معارك من أجل الأنسنة، الفكر الإسلامي قراءة علمية.