د. كريم شغيدل
وصلنا إلى أنَّ حداثة الغرب تخلقت في بيئة مفهومية للثقافة، في حين تخلقت حداثة الشرق في ظل بيئة حسية للثقافة، فكانت شكلية أكثر منها رؤيوية، ونخبوية أكثر منها اجتماعية، وسياسية أيديولوجية استهلاكية بجماليات نسبية أكثر من كونها فلسفية معرفية مغايرة بجماليات مطلقة، ففي حين بنيت حداثة الغرب على قطيعة معرفية مع السائد، بقيت حداثتنا أسيرة مسار تلفيقي بين السائد والموروث، بين انزياح الأشكال الأدبية وسلفية التفكير والتبعية الأيديولوجية وتخلّف واقع البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل إن الأعراف المؤسساتية (الرسمية والاجتماعية) قد اختزلت الثقافة في حقل الأدب، وقد شاع بين العامة مصطلح (مثقف) مرادفاً للفظة (أفندي) أي المتعلم الذي يرتدي الطربوش ثمَّ السدارة الفيصلية.
إنَّ زخم التعريفات التي حظيت بها الثقافة قد منح المفهوم مرونة سواء في حقول الثقافة ذاتها، أم في مجالات الحياة الأخرى كالدين والحضارة والتاريخ والتراث والسياسة والمجتمع والطبيعة وما إلى ذلك، ليصبح مفهوم الثقافة كلاً جامعاً لعناصر بناء الإنسان وموقفه من التحولات بصورتيها المحلية والكونية. وإذ لا يمكن تجزئة الثقافة نجد أنَّ ثقافة النخبة الأرستقراطية تنطوي على بذور شعبية، وتحمل الثقافة الشعبية بذوراً أرستقراطية «فإذا ما كان ثمة الثقافة بوصفها كياسة، والثقافة بوصفها هوية، والثقافة بوصفها نزعة تجارية فإن هنالك أيضا الثقافة بوصفها احتجاجاً راديكاليا» عند تيري إيغلتون، وذهب (ديفيد إدنمار) إلى أن الأنموذج التحريضي هو الحالة الوسطى بين الأنموذج الأرستقراطي والأنموذج الشعبي، والثقافة كما يمكن أن نستنتج من تطورات المفهوم هي تاريخ التحولات من الطبيعي إلى الثقافي وهي التحولات ذاتها في آن واحد، وهي مادة التحول ونتاجه الفردي في إطار المجتمع.
إذا كان الدين نقيضاً للنزعات القومية بحكم نزوعه الأممي فإن النزعات العلمانية قد صورت الدين على أنه نقيض للحضارة والثقافة وأغفلت دور المؤسسة الدينية في حركة النهضة والتحرر، وإذا كانت النهضة العربية قد ارتبطت بدعاة أسلاميين من أمثال
الكواكبي والأفغاني والطهطاوي، فإنَّ ثورة العشرين التي مهّدت لاستقلال العراق قد اقترنت بمراجع الحوزة العلمية- كما لا يخفى- وأنَّ واحداً من مآزق الحداثة العربية هو إحداث قطيعة فكرية بدلاً من الحوار مع المؤسسة الدينية ومن ثمَّ خلق قطيعة سياسية اجتماعية (تنظيمية) مع المؤسسة التي يمكنها أن تفعّل دور المجتمع وتحشد الجموع للقيام بالثورة، وبتنحية قوة المؤسسة الدينية وعزلها سياسياً برزت المؤسسة العسكرية كقوة وحيدة في ظل ضعف القوى الاجتماعية والثقافية، الأمر الذي جعل حركات التحرر العربي والحداثة بمنظورها العلماني مرتبطة بظاهرة الضباط الأحرار الذين حولوا البلدان إلى معسكرات وساحات حرب واختزلوا الثقافة إلى(عقائد لفظية) وإنشاء رومانسي، ومن ثمَّ طي سجل الإصلاح والنهضة والتحرر الحقيقي، وتحشيد قوى المجتمع البشرية والاقتصادية والثقافية في مشاريع وهمية قادت إلى الهزيمة، ما أسهم بتضخيم عقدة الشرق والغرب، وساعد على تكريس مركزية الغرب وتفوقه على هامشية الشرق وضعفه، ومع كل ما تركته نكسة حزيران من آثار دامية على المجتمع العربي إلا أنَّ الثقة لم تتزعزع كلياً بأيديولوجيا العسكر، بتأثير الخطاب المؤسساتي الذي أسس تلك الأيديولوجيا وبقي محتفظاً بهيمنته،
وعلى الرغم أيضا من بدء مرحلة جديدة بعد النكسة (يمكن تسميتها عصر النقد)، وهي بداية جديدة أو استئناف لمشروع الحداثة، من خلال ما قدمه (عبد الله العروي) في نقد الأيديولوجيا العربية المعاصرة، و(صادق جلال العظم) في نقد الدين، و(أدونيس) في نقد التراث، فإذا كانت النكسة قد نشّطت مشروع الحداثة نوعاً ما، فإنها بالمقابل وفّرت مناخاً أكثر استبداداً للنظام العربي عموما، تحت ذرائع لفظية أسست لخطاب قمعي أضعف المجتمع أمام هيمنة السلطة من مثل: المؤامرة، ومصير الأمة، وأعداء الأمة، ومن ثمَّ تأجيل مشاريع الحداثة،
في الحوار، وحرية التعبير والفكر، والنقد، والديمقراطية، والتحديث الحضاري في التقنية والتعليم وما إلى ذلك، بذريعة أنَّ الأمة منشغلة بقضية مركزية هي (تحرير فلسطين).
نكسة الحداثة
آخر تحديث: