بعد ثلاث دورات انتخابية عراقية على مدى اثني عشر عاما مضت يتوقع لقيادات الأحزاب الحاكمة والكتل السياسية التي أنتجتها تلك الانتخابات أن تجري مراجعة شاملة تتضمن فحصا لأوضاعها السياسية والتنظيمية وحجم علاقاتها بجمهورها الداخلي الحزبي والولائي، أم إنها ستعيد شحن ماكنتها التقليدية التي نجحت بها في الماضي، معتقدة أنها ستستثمر جميع الظروف الداخلية والخارجية لصالحها رغم جسامة الفشل السياسي وتخلي الجمهور العراقي عنها بعد أن تركت كليا حاجات المواطنين المعيشية والأمنية.
هذه الأحزاب مصرّة على المضي بكسب الجولة الانتحابية المقبلة، ومعروف أن هذه الأحزاب تكونت وتضخمت أحجامها وقوتها الظاهرية بسبب سيطرتها وامتلاكها قوة المال والسلاح، إضافة إلى التغطية بشعارات الدين والمذهب، وتلك حالة لا تشابهها أي حالة في العالم الديمقراطي المتقدم أو المتخلف الذي تعيشه بلدان العالم الثالث في أميركا اللاتينية وأفريقيا وبعض دول آسيا، حيث تصبح الديمقراطية بابا ووسيلة لتشريع وتقنين الفساد والتحكم والاستبداد.
ومن يراقب الساحة السياسية العراقية لا يجد وصفة مقنعة لمعمار العمل السياسي القائم البعيدة عن معادلة “إن المشروع السياسي له أهداف لخدمة الجمهور تحاكم الأحزاب من خلال إيفائها به” بل إن ما تعكسه تلك الفعاليات هو مجموعة من البدع المستندة على موروثات متخلفة طائفية وعشائرية لا تصلح حتى للمجموعات القبلية المعزولة في أفريقيا، ولم تتمكن الخروج من هذه اللعبة بعض الكتل الصغيرة التي وصلت إلى نادي الفعالية البرلمانية وكان ينتظر من خلال شعاراتها بصيص من الضوء، لكنها سرعان ما ضاعت في لجة المجاملات أو الخوف من الكبار أو التطلع إلى معاودة الحصول على مكاسب المال والجاه، مما يبعد الآمال باحتمالات الإصلاح السياسي الجذري.
لا يتوقع حصول تغييرات جذرية في قيادات الحكم العراقي المستقبلية ولا في توجهاتها التي خلفت كل الأزمات والانهيارات في البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي
ورغم الهزات الكبيرة في العراق والمنطقة والتي فضحت الإسلام السياسي المحسوب زورا على الطائفة السنية وكشف الصراع العسكري بقوة وجهه المتطرف المتمثل بتنظيمي القاعدة وداعش في حين لم تتوفر الظروف أو أريد لها عدم إبراز الوجه الآخر من الإسلام السياسي المتمثل بالتسيّد السياسي باسم الطائفة والمذهب المتنافض مع متطلبات العصر ونظمه المدنية القائمة على مبادئ المواطنة والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، قدّم بناة هذا الغطاء أنفسهم كممثلين لشيعة العراق في حين أن أبناء هذه الطائفة لم يختلفوا كثيرا عن إخوتهم من أبناء شعب العراق في الفقر والجهل وتردي الخدمات.
ولا يتوقع حصول تغييرات جذرية في قيادات الحكم العراقي المستقبلية ولا في توجهاتها التي خلفت كل الأزمات والانهيارات في البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ما وضع العراق على أعلى قوائم الفساد إلى درجة مديونيته بحدود 65 مليار دولار في حين سرقت من خزينته مبالغ تصل إلى 600 مليار ذهبت إلى جيوب مسؤولين حزبيين وحكوميين لم يقدم أحد منهم إلى القضاء إلى حد الآن ولم يتم استرجاع تلك الأموال المنهوبة، مما يضع جميع القائمين على السلطات الحاليين والحالمين بتجديد سلطاتهم في مواقع الشبهة، في مفارقة عجيبة لا تحصل سوى في العراق. فالفاشل والفاسد والمتسبب في ضياع الأرض وإفقار الناس وتجويعهم وإضاعة بيوتهم أو في منعهم من العودة إليها يمتلك الجرأة على طرح نفسه مجددا للبرلمان أو السلطة في ظل حقيقة عامة تقول بعدم صلاحية عاصمة العراق بغداد التي سبق وأن ضربت بها الأمثال بالأمن والزهو قبل عام 2003 للحياة الآمنة الكريمة وفي بلد مداخيله من النفط تؤمن حياة للعراقيين تضاهي حياة الرفاهية لأبناء الخليج.
هنالك غموض في تحديد موعد الانتخابات العامة في العراق حيث لم يتم إقرارها بشكل نهائي إلى حد الآن في ظل تجاذبات القوى السياسية المهيمنة على الحكم. فقيادة حزب الدعوة المتمثلة بنوري المالكي وأعوانه الأساسيين يرفضون تأجيل الموعد الأساسي في الثاني من مايو 2018 خوفا من احتمال حصول فراغ برلماني وتشكيل حكومة انتقالية وسط مستجدات إقليمية عربية تحت تأثير أميركي ضاغط باتجاه سحب الثقة بمكانة الإسلام السياسي وأحزابه أو تخفيف النفوذ الاستراتيجي الإيراني في العراق، مقابل تسريبات تشير إلى رغبة رئس الوزراء حيدر العبادي في كسب المزيد من الوقت لإنضاج مشروعه السياسي المستند على مكاسبه السياسية والعسكرية في القضاء على داعش ودحر مشروع الانفصال الكردي عن العراق رغم ما يواجهه من منافسة حادة تتمثل بقوى الحشد الشعبي الساعية إلى تجيير هذين المكسبين لصالح دخولها القوي في الانتخابات بدعم كبير من المالكي وسط تشديدات من العبادي على عدم دخول الحشد الشعبي في الانتخابات، أما العبادي فلديه فرصة كبيرة إذا تمكن من نقل نفسه إلى الساحة الوطنية الواسعة بجرأة. إلى جانب المساحة المتزايدة لمقتدى الصدر في الساحة العراقية.
أما بالنسبة للقوى السياسية الكردية، فقد أحدثت خطوة مسعود البارزاني بالاستفتاء على الاستقلال انهيارا كبيرا في تماسك تلك الكتلة التي تمتعت عبر السنوات الإحدى عشرة الماضية بقوة سياسية ضاربة في العملية السياسية فقدتها بعد الخامس والعشـرين من سبتمبر المـاضي، رغم احتمالات بناء كتلة كردية (يتزعمها الاتحاد الوطني في السليمانية) موالية لبغداد ووفق تحالف قد يقوده المالكي الموالي لطهران إذا ما خرج هذا الحزب بقيادة جـديدة تخلف قيادة الراحل جلال الطالباني إلى جانب كتلة التغيير (كورون) الخصم اللدود لقيادة البارزاني.
هنالك غموض في تحديد موعد الانتخابات العامة في العراق حيث لم يتم إقرارها بشكل نهائي إلى حد الآن في ظل تجاذبات القوى السياسية المهيمنة على الحكم
وتبدو الصورة الكردية ملتبسة في ظل تأجيل عمل البرلمان الكردي لثمانية أشهر في وقت يتزامن مع الانتخابات العراقية العامة إذا ما بقي موعدها على حاله. إن لدى الأحزاب الشيعية الكبيرة استحضارا لذات الوجوه للحفاظ على مواقعها من بينها عدم السماح بتشريع قانون جديد للأحزاب يكرس تحريم الطائفية والفساد والمال السياسي، أو قانون جديد للانتخابات يتيح الفرصة للكتل السياسية الصغيرة لأخذ فرصتها في البرلمان المقبل. فالبرلمان الحالي ضرب الرقم القياسي في الولاء والطاعة لمسيرة الهيمنة الطائفية، وتعمل تلك الأحزاب على استثمار الظروف الصعبة للمواطن العراقي فأطبقت على الشارع الشيعي بإغراقه بالمخيال المذهبي وطقوسه المشروعة وغير المشروعة وسيطرت على قدراته بشل قدرة التمرد ورفض العقاب الجماعي لحياته الإنسانية وبناء جدران التخلف والجهالة أمام مستقبله واتصاله بعالم اليوم الكبير رغم توفر وسائل المعرفة والتكنولوجيا، لكي تتحول من أدوات لتيسير العلم والمعرفة إلى وسائل لتكريس مظاهر الانحلال والجهل إلى درجة محاولة بعض الأحزاب الدينية تمرير قوانين تكرس إعادة عهود الرق والجواري على نصف المجتمع العراقي (المرأة).
ورغم هذه الحالة السلبية في علاقة هذه الأحزاب بالجمهور هناك شغل داخلي لإنضاج وبلورة تحالفات أولية لن تحدث خرقا للواقع الرتيب الذي ساد خلال السنوات السابقة إلا إذا استثمر العبادي فرصته الذهبية، وتخلص من عبء ارتباطه بحزب الدعوة الذي يتحمل جميع جوانب الفشل في العراق والاستناد على وسط عراقي من خارج جمهور حزب الدعوة، ثم يعقد تحالفات عابرة للطائفية بعد حسم تحالفه مع الصدر خصم المالكي، وهناك كتل وقوى تقليدية غير طائفية ككتلة إياد علاوي وغيرها من الكتل الصغيرة، وستكون منافسا عنيدا لكتلة المالكي ذات الحجم الأول حاليا والقدرات الهائلة وخصوصا استناده على قوى الحشد الشعبي.
أما الكتل السياسية التي تدعي تمثيلها للعرب السنة فهي مشتتة ومتصارعة، والعلامة البارزة والتي ليس لها ثقل مميز فهي نشاط بعض الوجوه الجديدة من الوسط السني الممتلكة لسلاحي المال والإعلام للوثوب إلى الحلبة الانتخابية تحت شعارات براقة لجذب المقموعين والمظلومين من العرب السنة على وقع الكوارث التي يعيشها أبناء المحافظات الغربية، لكن هذه الوجوه لا تختلف عن غيرها في الجوهر، وستدخل النادي إن سمح لها، وبعضها لا تبتعد عنها الشبهات، وستأكل من ذات البيدر الذي أُكل منه قبلها.
ما لا يمكن تصوره كيف يجوز لسياسي أو نصف سياسي جاهل بأبسط مقومات وواجبات شرف المسؤولية الشعبية أن يعود مرة أخرى لفرض نفسه على الجمهور المظلوم، وهل من لا يسمع أنين المرضى في مخيمات النزوح القسري ولا يعيش صرخات الأطفال اليتامى وأنين ملايين الأرامل، يستطيع أن يتجاسر على المبادئ الأخلاقية والأعراف السياسية ويسرق أصوات الناس مرة أخرى بلا حياء أو خجل؟