هاني عاشور
على الرغم من تحفظي الشديد على مصطلح ” المصالحة الوطنية ” الذي ما زال يراوح مكانه منذ عشر سنوات ، واقتراحي باستبداله بمصطلح اخر ، اجد ان فكرة ” المصالحة ” ما ما زالت خارج المنطق السياسي العراقي ، لاننا لم نحدد بشكل واضح شكل الخصومة واطرافها ، اذا كانت ثمة خصومه ، واذا كانت المصالحة عبارة عن اجتماعات ولقاءات عشائرية واحتفالات ودعوات عشاء وسفر وايفادات ، وجلسات وندوات وكلام معاد مكرور ، فاننا سنبقى ندور في ذات الحلقة المفرغة التي درنا بها عشر سنوات مضت .
وعلى الرغم من اعتقادي ان الدكتور اياد علاوي الذي يحاول ان يشرع بهذا الملف منذ توليه منصبه نائبا لرئيس الجمهورية دون تكيلف رسمي للاسف حتى الان ، سيكون منتجا لافكار وخطوات جديدة ، مع توفر حسن النيه لديه لاطلاق هذا الملف ، اجد نفسي مضطرا لتقديم بعض الافكار بشأن ما يسمى بمشروع ” المصالحة ” .
ولكي نحدد اطراف الخصام والحكم ، فان هناك من يعتقد ان “المصالحة ” تأخذ جانبا دينيا مذهبيا وهي اقسى صور الخصام اذا كان هناك خصام مذهبي برز بعد عام 2003 نتيجة استخدام السياسة للمعتقد كواحد من شواخص تعبئة الشارع العراقي لاغراض سياسية او انتخابية او تزاحم على مواقع السلطة ، دون ان يكون للخلاف المذهبي الفقهي اساس في الخصام ، فقد حلّ اجدادنا تلك الخلافات بمئات الكتب التي تستلقي على الرفوف حتى اليوم ولن تجد من يعيرها ادنى اهتمام .
اما ان تكون فكرة ” المصالحة ” بين شواخص نظامين سابق ولاحق ، فان بنية الدولة العراقية مطعمة حتى الان بالسابق واللاحق على مستوى الكوادر الوسطية والعسكرية والوظيفية ، عدا استبعاد من لم تعد لديهم القدرة الحقيقية لان يكونوا طرفا في خصومة ، ولا ضرر لهم ، ولم يكونوا طرفا في تعطيل دولة او منهج سياسي يسير منذ عام 2003 ولم يتغير .
واذا كان ملف ” المصالحة ” منذ عام 2003 قد حفز الكثير في عقد مؤتمرات في الداخل والخارج كمؤتمر مكة ، ومؤتمر القاهرة ، فقد كان هناك منهج واضح لتفويت فرص ” المصالحة ” بدل وضع اسس للانطلاق بها ، ولم تكن تلك المؤتمرات اكثر من خطب وعتاب ، سرعان ما تحولت الى جمرات تحت ركام الخصومة ، دون ان يكون للشعب قرار او رأي فيها ، بل كان هناك من يتحدث باسم المجموع ويمنح نفسه التخويل بالحديث دون ان يكون مخولا .
ان غالبية السياسيين شاركوا بصنع قرارات ما زالت تتحكم في بنية الدولة العراقية وتثير الانفصام السياسي ، وهم الان يتصدرون المشهد السياسي وبامكانهم مراجعة تلك القرارات خلف كواليس السياسة ، والتخلص منها اذا كانوا
قد تيقنوا انها السبب في عدم توحيد الصف الوطني ، وانها السبب في مجيء طبقة فاشلة لقيادة بعض مفاصل الدولة ، دون استخدام ذريعة ” المصالحة ” للاتيان بمزيد من الفاشلين تحت عناوين ” التوازن ” و ” المحاصصة ” و ” الوطنية ” ، ” وتمثيل الكتل السياسية ” وغير ذلك من المصطلحات التي استخدمتها بعض الكتل السياسية لتنظيم طواقم واتباع لها تحت عنوان التغيير .
وبصراحة اكبر فان الشعب لم يختلف وانما اختلف السياسيون لمصالح تم تغليفها بـ ” المصالحة ” ، لتكون سببا في صناعة اهرامات من الاتباع تحت يافطة الوعود بانهاء المسائلة والعدالة ، والغاء المحاصصة ، واستعادة الحقوق ، فيما كانت المسائلة والعدالة قد منحت اخرين فرصا ليتصدروا المشهد وهم حريصون على تصدره باستمرار المساءلة والعدالة ، فقد كانت المحاصصة قد منحت اخرين فرصا ليكونوا زعماء ، ولولا شعارات ط المحاصصة” لظلوا يحلمون بالوصول الى بوابات بعض المؤسسات دون دخولها ، مثلما يحصل اليوم من استغلال واستثمار للمحاصصة ليجنوا المزيد من الاموال والمناصب ، او كما تاجر بعض السياسيين بحقوق شريحة مهمة من ابناء الشعب فاستولوا على حقوق ليست من نصيبهم ، تحت يافطات الشعارات الكبيرة والعبارات الرنانة الطنانة .
اننا نحتاج اليوم الى اعادة قراءة وتصحيح بعض القوانين ، واعادة لجنة تعديل الدستور لابعاد ما يتسبب في الضرر لشرائح كبيرة ، بدل البكاء على اطلال المصطلحات ، وان جميع الكتل السياسية الممثلة في البرلمان والتي تنادي بالحقوق والوطنية بامكانها ان تعيد تشريع القوانين ومناقشتها تحت اعتبار تغير الظرف ودفع الضرر ، وانتفاء الحاجة لتلك القوانين الملغومة ، واسترجاع حقوق الشعب التي سلبها المفسدون ، لانها حق الشعب وليس حق شريحة معينة وطبقة سياسية انتقت واختارت نفسها .
ان العراق بعد كارثة جرائم ” داعش ” مهيأ لمناقشة كل شيء ، لان العراق امام انعطافة تاريخية وتحدي وجود وبقاء ، وما زلت لا اظن ولا اتيقن ، ان مشروع ” المصالحة ” سيمضي وسط اجواء التشنج السياسي ، واستخدام مصطلح ” المصالحة ” الذي ارتبط بالذهنية الشعبية العراقية بالفشل ، والتذكير بالانفصالية والاثنية والطائفية وتصدر سياسيين لمشهد عراقي سيكونون فيه الابعد فيما لو لم تكن تلك الخصومة المثرية بين السياسيين سببا في انتاج ازمة وطن .