هل هناك رأي عام فاعل في العراق؟

هل هناك رأي عام فاعل في العراق؟
آخر تحديث:

بقلم:زكي رضا

عادة ما تتجه المراكز البحثية في البلدان الديمقراطيّة وهي تريد استقراء الأوضاع السياسيّة أو الاقتصادية وغيرها ومواقف الجماهير منها إلى عيّنات عشوائية من الناس واستطلاع آرائهم لغرض عرضها على صانعي القرار السياسي لاتخاذ موقف مّا من قضيّة مّا. لكنّ استطلاعات الرأي لا تعني مطلقا نجاحها في تقديم صورة حقيقية للقضيّة التي استطلع الجمهور فيها، فهناك دوما هامش للخطأ بنسب تختلف من مجتمع إلى آخر اعتمادا على أمور عدّة، منها انتشار الوعي، جودة التعليم، الديمقراطية، نسبة البطالة، قوّة النقابات والاتّحادات المهنيّة، الثقة بالحكومة، الإعلام المستقل، وغيرها من تلك التي هي على تماس مع مصالح الجمهور اليومية.

إنّ استطلاع الآراء أصبح اليوم تجارة تقوم بها مؤسسات استطلاع لأحزاب متنافسة في وصولها إلى السلطة، أو حتى بين شركات كبرى تتنافس لتسويق بضائعها في الأسواق، وهذا يعني أنّ هذه المؤسسات البحثيّة تعمل على صناعة رأي عام يساعد تلك الأحزاب للوصول إلى السلطة، أو تلك الشركة لتسويق منتجاتها، وهذا يعني تحديدا أرباحا مالية للأحزاب والشركات المتنافسة.

يُحدّد الكثير من الباحثين في موضوعة الرأي العام وأهمّيته، على أنّ هناك رأيا عاما ثابتا وآخر مؤقّتا. كما وأنّ هناك رأيا عاما يُقاد، وآخر يقود. ولأننا نتحدث هنا عن العراق، فإننا سنتحدث عن الرأي العام في العراق ودوره على الخارطة السياسيّة في بلده، وموقفه من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد. لنرى إن كان هناك رأي عام عراقي بالشكل المتعارف عليه في البلدان الأخرى، ومدى إمكانية أن يلعب الرأي العام العراقي دورا مؤثرّا في “العمليّة السياسيّة” التي تقوده وبلاده نحو المجهول؟

لا يجب أن يتحرك الرأي العام فقط باتجاه تحقيق مطالب آنيّة وإن كانت ملحّة، بل عليه التحرّك نحو فضاءات أكبر بكثير من المطالب الآنية، فضاءات تأخذ قضايا سياسية كبيرة كتغيير شكل السلطة وترسيخ من العوامل التي تشكّل الرأي العام وفق آراء الكثير من الباحثين، ولا زلنا نأخذ العراق كمثال حصرا هنا، نجد الزعماء السياسيين ورجال الدين والعشائر وزعماء الميليشيات، وكمّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها المجتمع العراقي، ولا نقول السياسية، كون الشأن السياسي لا تهتم به الغالبية العظمى من الجماهير نتيجة غياب ثقتها بمنظومة الحكم بأركانها الثلاثة من جهة، وغياب أو ضعف قوى سياسيّة تطمح وتعمل على التغيير، ويأسها، أي الجماهير، من حدوث تغيير نحو الأفضل من جهة ثانية، وكونها غير واعية لا بحاجاتها اليومية وتوفيرها للعيش بكرامة ولا بمستقبل وطنها.

قد يبدو هذا الاستنتاج قاسيا، لكنّه الأقرب إلى الحقيقة بشكل كبير من خلال استقراء الأوضاع السياسية التي شهدتها البلاد منذ الاحتلال إلى اليوم. إنّ الانتماء الوطني في العراق ضعيف مقارنة بالانتماءات الطائفيّة والقومية والعشائرية، بل وحتّى المناطقيّة، والقوى المهيمنة على المشهد السياسي وتشكّل الدولة والدولة العميقة التي تعمل على انتشار وترسيخ الطائفية والعشائرية والمناطقيّة كوسيلة لبقائها في السلطة، بل هي في الحقيقة وإن توخينا الدقّة فإنّها أي الدولة امتداد طبيعي للنسيج الطائفي القومي المناطقي.

هناك رأي عام ثابت وآخر مؤقّت، وفق الباحثين والمراكز البحثية المختلفة، والرأي العام الثابت هو الذي يرتكز على مفاهيم ثقافية ودينية وطائفية محدّدة ومشتركة بين غالبية جمهور مناطق جغرافيّة معيّنة وحتّى من أبناء تلك المناطق الذين يعيشون خارجها، ومزاج هذا الشكل من الرأي العام من الصعب تغييره، أو من الصعب تغيير غالبيته ولو البسيطة في مسائل سياسيّة مهمّة، كإصلاح سلطة أو تغييرها.ولأننا لا زلنا في المثال العراقي، فانتفاضة تشرين على سبيل المثال لم تستقطب جماهير البلاد بأكملها، واقتصرت إلى حدود بعيدة جدا على أبناء مناطق ذات لون ثقافي وطائفي واحد وهم الشيعة، لأسباب منها ضعف البنى التحتيّة والخدمات في المناطق الشيعية مقارنة بغيرها من المناطق ككردستان مثلا، وكون السلطة التنفيذية بأيدي ساسة ورجال دين شيعة لم يقدّموا ما كان منتظرا منهم لأبناء جلدتهم على الأقل، هؤلاء الذي انتفضوا ضد سلطة البعث في آذار – مارس 1991 تحت شعار “ماكو ولي إلّا علي ونريد حاكم جعفري”. وإذا بالحاكم الجعفري فاسد ولص وأذاقهم الفقر والبطالة والمرض والجهل والأميّة.

الرأي العام المتحرك أو المؤقّت مرتبط بوجود مشكلة مّا أو مطلب مّا، وموقف الرأي العام منها عن طريق تنظيم تظاهرات أو اعتصامات أو إضرابات أو وقفات جماهيرية. والرأي العام هذا سلبي أكثر ممّا هو إيجابي، كونه يبحث عن مصالحه بأنانيّة وغباء، فالسلطة تستطيع أن تقف بوجه إضراب المعلّمين أو الكادر الصحي والخدمي في مدينة أو منطقة مّا في حال تنظيمهم تظاهرة أو إضرابا أو وقفة جماهيرية لتحقيق مطالبهم، لكنّ نفس السلطة ستكون عاجزة عن مواجهة إضرابات أو اعتصامات في كامل البلاد إن كانت هناك قوى سياسيّة قادرة على تنظيم هكذا شكل من أشكال النضال الجماهيري.

الرأي العام الثابت في العراق ومن خلال تجربة ما بعد الاحتلال، بل ومنذ تأسيس الدولة العراقيّة إلى اليوم، يرتكز على أسس طائفيّة وقوميّة ومناطقيّة. فالرأي العام (بأغلبيته البسيطة على الأقل) في جنوب العراق مثلا، يتأثر إلى حدود بعيدة بالمؤسستين الدينيّة والعشائريّة وتتم إدارة موقفه وتوجيهه من قضايا البلاد وفق وجهات نظر رجال الدين والعشائر والأحزاب والميليشيات من تلك القضايا. وهذا ينطبق على المناطق الغربية والكردية أيضا.

الرأي العام الثابت في العراق ومن خلال تجربة ما بعد الاحتلال، بل ومنذ تأسيس الدولة العراقيّة إلى اليوم، يرتكز على أسس طائفيّة وقوميّة ومناطقيّة

وهذا يعني أنّ موقف الرأي العام عند الشيعة مرتبط بطقوس مقدّسة تنتجها وتديرها مؤسسات دينية وعشائرية وثقافية مرتبطة بهاتين المؤسستين من جهة، وسطوة رجال الدين والعشائر والنخب السياسيّة في ظل غياب الدولة أو ضعفها أو انحيازها لجهة دون أخرى. وموقف الرأي العام في المناطق السنيّة تتم إدارته وتوجيهه هو الآخر من قبل مؤسسات دينية وعشائرية وثقافية ترتبط بهما، مع وجود نفس الدور لرجال الدين والعشائر والنخب السياسية في توجيه الرأي العام نحو حنين لماض كانت فيه أي الطائفة هي من تمتلك زمام السلطة. أمّا الكرد وهم يحلمون بوطن قومي لهم، فإنّ الرأي العام عندهم يقاد هو الآخر من مؤسسات عشائرية عائلية، مع تأثير واضح كما الآخرين للمؤسسة الدينية.

مثل هكذا رأي عام لا يمكن الاعتماد علية في قياس موقف مّا من قضية وطنية بحتة، فالمجموعات الثلاث بغالبيتها البسيطة كي لا نكون قساة في حكمنا عليها لا تعرف معنى الوطنية والانتماء للوطن، فالوطن عندها طائفة وقبيلة وعشيرة. ومثل هكذا رأي عام يقاد بسهولة إلى مواقف من يقودها ويرسم سياساتها. فالمثقفون، وهم أقليّة ولا يملكون وسائل إعلام ولا إمكانيات ماديّة كالتي تملكها مؤسسات الدولة التي هي امتداد للطائفية والعشائرية كما أشرنا قبل قليل، غير قادرين على أن يلعبوا دور القائد في صراعهم مع الطرف الآخر للتأثير في الرأي العام.

أمّا الرأي العام المتحرك أو المؤقّت، فهو رأي عام بائس وغير ميّال للمساهمة في إيجاد حلول أو مراكز ثقل لقوى مناهضة لسلطة الفساد ليمنحها القوّة على الساحة السياسيّة. فتظاهرة لعدم توفّر الكهرباء تنطلق في البصرة مثلا ويُقتل فيها عدد من المتظاهرين لا نرى تظاهرات متزامنة مثلها في مناطق أو مدن أخرى رغم معاناة أبناء تلك المناطق كما معاناة أبناء البصرة من نفس المشكلة، كي تكون ذات تأثير واضح على مزاج الناس من جهة وتحدّيهم للسلطة ودفعها لإيجاد حلول للمشكلة من جهة ثانية!

بشكل عام لا يجب أن يتحرك الرأي العام فقط باتجاه تحقيق مطالب آنيّة وإن كانت ملحّة، بل عليه التحرّك نحو فضاءات أكبر بكثير من المطالب الآنية، فضاءات تأخذ قضايا سياسية كبيرة كتغيير شكل السلطة وترسيخ مبدأ القانون وبناء دولة مؤسسات حقيقية في ظل نظام علماني ديمقراطي، وهذه الأمور الحسّاسة والمصيرية في حاجة إلى قوى سياسية قريبة من الجماهير ومزاجها من جهة، وقادرة على إقناع هذه الجماهير بضرورة مشاركتها الفعلية في ماكنة التغيير، كونها أي الجماهير هي الطاقة التي تحتاجها القوى السياسية الباحثة عن التغيير لتحريك ماكنة التغيير لإنقاذ الوطن من مستقبل تشير الوقائع إلى أنّه كارثي بمعنى الكلمة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *