لا أحد يجادل في مكانة السيد السيستاني الدينية، ولا في درجة إخلاصه لآل البيت والتزامه بمبادئهم وتعاليمهم، ولا فيما ينقله عنه (وكلاؤه) من فتاوى وخطابات وإعلانات وبيانات خاصة بأحكام الدين والشريعة.
ولكنه حين يغادر مقامه الديني ويدخل عالم السياسة والحكم يصبح واحدا من السياسيين، وثم يكون من حق أيٍ كان من أهل الرأي والبيان أن يتصدى لفكره السياسي، وأن يدقق في صواب مواقفه وقناعاته السياسية أو خطلها، ثم يسأل، هل تمخضت تدخلاته في أمور الحكم والسياسة عن تعزيز الهوية الوطنية العراقية، أم شاركت في تمزيقها؟، وهل عملت على تحقيق العدالة وسلطة القانون، أم ساعدت على تعميق الانقسام بين أبناء الوطن الواحد، وسهلت هيمنة الفكر الطائفي التمييزي التهميشي الذي أسس لكل هذا الخراب العظيم الذي لحق بالهوية الوطنية، والذي أصبحت معه كلمات ناعمة، حتى لو كانت صادرة من مقام السيد السيستاني نفسه، غير مجدية بعد أن انتهت صلاحيتها من زمن طويل؟.
السيستاني والصراع الشيعي السني في العراق:
أعلن الشيخ عبد المهدي الكربلائي، نيابة عن السيد السيستاني “أن الايمان بأن التعدد الديني والمذهبي أمر واقع، وينبغي معرفة كيفية التعامل الايجابي البناء مع التعددية، بما يصون المجتمع من الصراع، ومن استخدام العنف”، وطالب بـ “التعامل بعقلانية وواقعية وعدالة مع التعددية”.
وقال “إن من الامور الخطيرة التي أريق بسببها الكثير من الدماء البريئة هو تكفير الآخر لمجرد المخالفة في بعض القضايا العقدية “.
وأكد “أن الوعي بما تفرضه المصالح العليا للمسلمين والمصالح الوطنية العامة التي هي أهم بكثير من المصالح الضيقة التي يتصور البعض أنها مصالح للمذهب والطائفة، يستدعي مراعاة الحقوق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية للجميع، ضمن دائرة حقوق المواطنة التي يتساوى فيها الجميع، والتعايش على قاعدة المباديء والمصالح المشتركة، ودرء مفاسد الاختلاف والشقاق المضرة للجميع”.
مآخذ الشعب العراقي على المرجعية:
ولكن الشعب العراقي، بصراحة، لا يعفي السيد السيستاني، شخصيا، من مسؤولية ما حل بالوطن العراقي من خراب يصعب أصلاحه إلا بعمل خارق، وثورة شعبية كاسحة لا تبقي ولا تذر.
– وأول مآخذه عليه أنه لم يكتفِ بعدم الإفتاء بمقاومة الاحتلال الأمريكي، بل هادنه، وسايره، وقبل بأن يصبح المرشد الأعلى لإدارة الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر، وخاصة فيما يتعلق بالدستور الذي كتب على عجل، وأرسى قواعد المحاصصة الطائفية العنصرية التي أنتجت الموبقات الأخرى التي لا تنتهي.
– وثانيها سكوتُه، من أول الغزو الأمريكي، عن تحالف السياسيين الكورد مع الأحزاب الإيران العراقية، واحتكار الوطن والمواطنة، وتعميم تهمة (الصدّامية) و(الإرهاب) على طائفة كاملة، واستعداء الجيوش الأمريكية عليها، وقتل أكبر عدد يمكن قتلُه من أبنائها، وإتخام السجون والمعتقلات لا بالمئات بل بالآلاف ممن يمكن اختطافه واعتقاله، وتهجير من يمكن تهجيرُه منهم، دون تمييز بين محسن ومسيء.
– ثم سكوته عن تدفق آلاف المجندين، بكامل سلاحهم من الجارة إيران، ثم عن تسابق الوكلاء العراقيين لإيران على إنشاء المليشيات، رافعين أعلام آل البيت وصورهم وشعاراتهم، وهم يعملون تحت قيادة الحرس الثوري، لا لخدمة العراق ووحدته الوطنية، بل لترسيخ وتعميق الفرقة والاختلاف والاقتتال، والفتك بكل من يرفض اعتبار العراق مستعمرةً إيرانية عادت إلى أصحابها الشرعيين.
أسئلة مشروعة:
– ألم يكن السيد السيستاني هو الذي (أمر) سلطة الاحتلال الأمريكي باختيار إبراهيم الجعفري وعبد العزيز الحكيم ومحمد بحر العلوم وموفق الربيعي وأحمد الجلبي وأياد علاوي أعضاء ورؤساء في مجلس الحكم سيء الصيت؟،
– ألم يُجبر السيد السيستاني سلطة الاحتلال الأمريكي على التخلي عن فكرة الاستفتاء الشعبي العام لاختيار النظام السياسي، واستبدالها بمسرحية تسليم السيادة، وتعيين أياد علاوي رئيسا مؤقتا للوزراء؟،
– ألم يصر على كتابة الدستور، بأسرع ما يمكن؟،
– ألم يتدخل، عبر المتنفذين من أتباعه في لجنة كتابة الدستور، في صياغة عدد كبير من أحكامه التي أسست للمحاصصة الطائفية العنصرية التي فصصت الشعب العراقي إلى (مكونات) يسعى كل (مكون) منها لاقتطاع أكبر ما يستطيع اقتطاعه من الفريسة، حتى لو أحرق الوطن، ومى بمصير شعبه في المجهول؟،
– ألم يأمر جميع القوى السياسية الدينية الشيعية التي تأتمر بأمره بأن تُنصب نوري المالكي فرعونا جديدا، في الدورة الأولى؟، وألم يباركه في الدورة الثانية؟، وألم يسكت، وما زال يسكت، عن تحضيره لدورة ثالثة، رغم ثبوت فساد حزبه ومستشاريه، وظلمهم وانحرافهم وتقصيرهم عن خدمة المواطنين؟،
– وهل قال شيئا عن (أسد) العراق نوري المالكي الذي سافر إلى روسيا، باسم الدولة العراقية، ونيابة عن (جميع طوائف الشعب العراقي وقومياته وأديانه المتعددة)، سواء منها الموالية لإيران والمعارِضة، مطالبا السيد بوتين بالتفضل والتكرم والتنازل والأمر بإرسال جيوشه، بكامل أسلحتها، إلى العراق، كما فعل في سوريا، ثم بعد أن يعود إلى (عرينه) يهاجم، دون خوف ولا حياء، مَن وصفهم بـ “الشركاء الذين فتحوا أبواب الوطن أمام التدخلات الخارجية”؟،
– وهل قال شيئا عن حملات الاعتقال والاختطاف والقتل والتهجير والتعذيب والسلب والنهب والاغتصاب وحرق الأسرى وهم أحياء، طيلة أيام حكم نوري المالكي، وأيام خليفته حيدر العبادي؟،
– وهل تطرق، مرة واحدة، لطوفان البضائع الإيرانية السيئة والمخدرات التي أغرقت الوطن، وجعلت محافظات الجنوب العراقي، أكثر من الوسط والشمال، الأعلى في أعداد المنتحرين؟،
– وهل رد، يوما، على (زعم) القائد العسكري المهزوم مهدي الغراوي بأنه أبلغ المرجعية بوجود تحركات ومحاولات لاحتلال مدن عراقية من قبل الدواعش، فلم تحرك ساكنا، كما يقول؟،
– وهل طالب، ولو مرة واحدة، بالتحقيق الجدي المحايد العادل في ظروف نشوء تنظم الدواعش، وفي ظروف وأسرار احتلاله للأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى، ومحاسبة المُدان، أيا كان، ومن أي حزب أو طائفة كان؟،
– وهل أوضح، ولو مرة واحدة، حقيقة فتواه حول (الجهاد الكفائي) التي استغلها الإيرانيون فأنشأوا الحشد الشعبي، واستدرجوا الألاف من المتطوعين ذوي النويا الوطنية الحسنة للانضمام إليه، وجعلوا قيادته الحقيقية لـ (أولادهم) المطيعين، هادي العامري وأبي مهدي المهندس وقيس الخزعلي، ثم جاهروا بأنه (حشدهم)، وبأنه حرسهم الثوري العراقي، ثم يباهي قادته العراقيون بأن ولاءهم للولي الفقيه ولقاسم سليماني، وليس للسيد السيستاتي، ولا لرئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، حيدر العبادي؟.
– وهل قال شيئا عن التجاوزات والمخالفات والجرائم التي ارتكبت بدوافع طائفية إرهابية تكفيرية متخلفة أساءت لرسالة الحشد، نفسه، ولهيبة المرجعية، ولسمعة الطائفة كلها؟
– وهل قال أو فعل شيئا عن المسرحيات المغشوشة التي يتسابق، اليوم، كبار السياسيين الفاسدين الذي اشتكى، هو نفسه، من فسادهم مرات عديدة، من أجل بقاء كلٍ منهم في موقعه وسلطته بعيدا عن أي حساب وكتاب؟.
وأخيرا:
إن من المحزن حقا أن يتقهقر سلطان المرجعية وهيبتها إلى الحد الذي صارت معه، مثلَ الملايين العراقية العاجزة المغلوبة على أمرها، ترى المنكر والبغي والعدوان والاحتلال ولا تملك سوى الكلام الناعم عن “المواطنة الصالحةو التماسك الاجتماعي وعدم اثارة الخلافات بشكل يثير الفتن والصراعات المذهبية”، وهي تعلم علم اليقين بأن رقعتها أصغر كثرا جدا من الشق الذي صنعه الحرس الثوري وفيلق القدس وقاسم سليماني في الثوب العراقي الجميل العزيز.وختاما، ترى هل تحق دعوة المظلوم لمعانقة الظالم، والمسروق لتقبيل يد السارق، والتسامح مع من لم يُسامح؟ هذا هو السؤال.