آخر تحديث:
د. ماجد السامرائي
صناعة الحاكم في العراق منذ عـام 2003 لم تعد محلية عراقية لأن النظام السياسي قد تم تأسيسه من قبل المحتل الأميركي حتى ويتم إخراج هذه الصناعة عبر اللعبة الانتخابية.هناك فرص تعطى للأحزاب “النافذة” قبل القرار النهائي لصناعة الحاكم لكنها ليست صاحبة القرار، فالكلمة الأخيرة هي لدى كل من الإيرانيين والأميركان بمساندة الإنكليز.
المعطيات المحلية مهمة، قدرات المرشح وحجم مكانته ومدى قبوله من بين رفاقه ونجاحاته في الميدان التنفيذي ومدى قدرته في التغلب على المشكلات الكبرى، وهذا ما يحصل اليوم في العراق منذ عام 2014، بعد انهيار خمس فرق عسكرية عراقية أمام شلة عصابات “داعش” التي احتلت بصورة كاملة ثلاث محافظات عراقية.
تمت تنحية نوري المالكي ووضع حيدر العبادي بديلا عنه، وهو الحامل لتاريخ حزبه حزب الدعوة، لكن مواصفاته الشخصية المنفتحة والمعتدلة رجحته على غيره من رفاقه، وتركت له فرصة الحكم أمام تلك التحديات، حيث تغلب على مشكلة احتلال “داعش” بمعاونة التحالف الدولي الكبير بقيادة الولايات المتحدة ودعم طهران المترددة في دعمه أمام مراهنتها على المالكي، رغم ما واجهه من مشاكل خلال ثماني سنوات من حكمه، بسبب سياساته المتطرفة، وتخليه عن آرائه ومواقفه العروبية، ومعارضته لولاية الفقيه خلال فترة المعارضة قبل عام 2003 اختلف فيها عن غيره من القيادات الدعوية الأخرى كإبراهيم الجعفري مثلا.
وحاول العبادي خلال السنوات الثلاث الماضية أن يجعل من قضية طرد “داعش” هي القضية المركزية في حكمه، وهو محق في ذلك، حيث كانت فرصة اختبار حقيقية لنجاحه في هذه المهمة ببعدها الوطني، رغم أنها قضية دولية كرست لها جميع الإمكانيات العسكرية والاستخبارية العالمية، لكن الدماء العراقية كانت هي العامل الأول في تحقيق النصر.
وكان من الطبيعي أن يهمل قضيتي الفساد والخلل المركزي في طبيعة النظام السياسي، ثم برزت أمامه الأزمة الكردية بكل ثقلها التاريخي والسياسي، وما حملته من تراكم دعم أميركي وأوروبي الذي تبخر أمام قضية الانفصال عن العراق.
أراد العبادي تحويل النصر العسكري إلى قاعدة سياسية تخدم حلمه بدورة جديدة، رغم جسامة هذه المهمة وتعقيداتها، وهو المحاط بدوائر ضغط حزبية ومذهبية هائلة ومتعددة الأطراف لا تريد تفكيك قوى الهيمنة التي نجحت في إبقاء السلطة بيدها رغم خسارتها للمواطن العراقي، في ظل إفلاس لخزينة الدولة وسيادة إمبراطورية الفساد في كل زاوية من مؤسسات الحكم، وهو يعلم أن مسك العصا من الوسط سياسة قد تخدم المناورة المؤقتة، لكنها تفشل في الاستجابة للقضايا الكبرى مهما حاول ترحيلها، وهو يعرف أيضا أنه لا بد أن يصل إلى نقطة القرار الجريء في الخروج من العباءة السوداء الضيقة إلى فضاء الوطن.
في عالم اليوم وفي ظل ظروف العراق والمنطقة حلم الزعامة السياسية شيء ومتطلبات الإذعان لمقتضيات الحاكمين بهذه الظروف شيء آخر، ولكن الأهم هو رصيد العراقيين الأصلاء
هذه العقدة الرئيسة التي تواجه العبادي لا يمكن التحايل عليها بخطاب اعتدالي عام، رغم أهميته بحماية القوى الوطنية الناهضة، لكنه لا يتمكن من المجازفة بقرارات سياسية تستفز القوى المحيطة به والمالكة لمصيره السياسي، وهم رفاقه في حزب الدعوة وأمينه العام المالكي الذي لديه برنامجه المعروف والمستقبلي في قيادة العراق، والأخطر عليه الاقتراب من المحرمات الإيرانية القاطعة بعدم السماح لعرب الخليج وفي مقدمتهم السعودية الدخول في العراق، حتى وإن كان ذلك عطاء سخيا لإعادة بناء هذا البلد المخرب.
لكي يستعيد مكانته المهدورة منذ عام 2003، والذهاب إلى مدى أبعد في علاقته مع واشنطن، أصبح مطلوبا من العبادي تقديم إجابات واقعية على ما يعيشه العراق بعد “داعش”، من استحقاقات سياسية واقتصادية داخلية، ومدى قدرته على حل مشاكل عودة أكثر من أربعة ملايين إنسان تم تهجيرهم قبل وبعد احتلال داعش للعراق عام 2014، وارتباط هذه الأزمة الإنسانية بأزمة العراق السياسية (نظام الحكم)، وإمكانيات إزاحة عناصر التهديم والتفكك الطائفي عنه، وكيفية تعاطيه مع مستجدات السياسة الأميركية الملحة في ظل إدارة ترامب على بناء سياسة جديدة في العراق والمنطقة.
انطلاق برنامج تلك السياسة عبر تفاهم أميركي سعودي حصل خلال الشهور القليلة الماضية، لدرجة حضور العبادي في اجتماع ثلاثي مشترك في الرياض الأسبوع الماضي بين وزير الخارجية الأميركي والسعودي تجاوز التقاليد البروتوكولية، ومدى قدرة العبادي على خلق الموازنة الدقيقة ما بين علاقة نظامه العميقة بطهران وبين حاجات العراق للمال السعودي المفتوح لإعادة بناء العراق.
أثبتت السياسات العامة لحكومة ما قبل العبادي جملة من الانتكاسات الأمنية والسياسية وإحلال التعصب السياسي والتطرف المذهبي محل قبول الآخر، فإيران لا تريد لحاكم شيعي أن يجلب لها المشاكل والأزمات في وقت تقطف فيه ثمار برامجها للهيمنة على الخط الممتد من خانقين وحتى البحر الأبيض، كما أن أميركا الخارجة من هزيمتها في احتلال العراق والتحول الحاصل في إستراتيجيتها بمجيء ترامب وجدت في العبادي قدرات لإحداث ثغرة في الجدار الإيراني بالعراق وعرب الخليج المراقبين للحال المظلم في العراق.
هذه المعطيات تقف أمام خيارات العبادي بقوة، فإما أن يتعامل معها باقتدار الزعيم الوطني الحالم بالقيادة، وإما أنه سيستسلم للوضع الحالي وينهي دورته في الحكم في الربع الأول من عام 2018 دون خسائر شخصية.
من يحلم بالزعامة عليه تقدير عال الدقة بين المكاسب والخسائر، ويقبل بالمغامرة المحسوبة، وأمامه التجارب السياسية داخل البلد، فمسعود البارزاني سقط في مغامرته غير المحسوبة، فالانتصار على داعش وعلى دعوات الانفصال تنتهي مفاعيله إذا لم يتم تفعيلها بخطوات وطنية جدية، وقد يستلم هذا الإنجاز غيره من أقطاب الزعامات الشيعية.
العبادي في لحظة حرجة على طريق طموحه السياسي ومراهنة قطاع شعبي عراقي واسع على سياساته لحد الآن إن لم ينتكس منتصف الطريق
المؤشرات العامة لسياسات العبادي مشجعة على إمكانيات الخروج من نفق العراق المظلم، لكن العموميات لا تكفي وحدها.
من بين الأمثلة على ذلك مناورته الإعلامية في قضية الحشد الشعبي فمن جهة يحذر من يخرج عن سيطرته من تلك الفصائل، ومن جهة أخرى يرفض دعوة وزير الخارجية الأميركي بضرورة رحيل الفصائل الميليشياوية المسلحة الموالية لطهران، وكذلك الحرج أمام دعوات قادة بالحشد وفي مقدمتهم هادي العامري الداعية إلى خروج القوات الأميركية من العراق بعد أن شارفت مهمة القضاء على داعش على النهاية، إضافة إلى دعوته الصريحة لكل من إيران وأميركا بإبعاد العراق عن أن يكون ساحة نزاع، وهو رد على دعوات أميركا بضرورة مضايقة الوجود الإيراني في العراق.
كما إن دعوته لقيام سياسة تهدئة في المنطقة بدلا من الاحتراب تفرض عليه استحقاقات نزع فتيل التوترات الطائفية داخل العراق، وسببها الرئيسي الاستقطاب الطائفي الناتج عن السياسات الحكومية والحزبية ضد مكون رئيسي لعرب العراق السنة، وهو يعلم ضمنيا أن سياسته الانفتاحية على السعودية وبعض العواصم العربية الأخرى لا تجد رضا إيرانيا، لأنها تعني بالنتيجة تصعيد الحالة العربية مقابل حصر العراق في تبعيته لإيران، كما أن السعودية طرقت الأبواب وهي تريد عراقا منسجما سياسيا، وهي مهمة شاقة على العبادي وخزانة بلده مكبلة بالديون.
معظم الظروف الداخلية والعربية والدولية تخدم العبادي في طريقه لأن يتحول إلى زعيم وطني عراقي، انتصاره في الحرب على داعش، ورفضه تقسيم البلد وانفصال جزء منه، فهل يقدم العبادي عراقيته على مذهبه وطائفته، ويتمكن من بناء دولة المواطنة، كل الوقائع والمعطيات تطالبه بأن يخرج من تلك العباءة السوداء الضيقة إلى فضاء الوطن المعركة مع داعش، وهي وطنية بامتياز حتى وإن حاولت بعض الفصائل المقاتلة تحويلها إلى معركة أبناء الحسين ضد أبناء يزيد، في منطق سياسي لا يتعايش مع العصر ويمثل تيارا طائفيا غير صالح إلا لسكان الكهوف المعزولة وفيه إهانة لوعي أبناء العراق ووحدتهم.
لا يمكن الفصل بين من يقاتل ضد المتخلفين المتطرفين وبين أولئك الذين يريدون قلع جزء حيوي من العراق وبين مواجهة منطق الكراهية والاحتراب الطائفي، كيف يستطيع العبادي أن يوحد الرؤية السياسية وسط هذه الألغام المحيطة به، وإعادة بناء اللحمة الوطنية ومداواة الجروح النازفة، وهل يتمكن من الحفاظ على خط مساره المتصاعد دون أن يتجاوز خطوط المخاطرة وسط حالمين من قيادات حزبه، إضافة إلى المالكي الذي يمتلك عناصر التأثير الداخلي وجزءا من إقليم طهران وغياب الداعمين الأميركي والبريطاني.
العبادي في لحظة حرجة على طريق طموحه السياسي ومراهنة قطاع شعبي عراقي واسع على سياساته لحد الآن إن لم ينتكس منتصف الطريق. ليس من المنطقي أن يتصرف مثلما يريد الأميركان اليوم في التضييق على الوجود الإيراني في العراق، وهو يعلم أكثر من غيره حجم هذا النفوذ وإن الاقتراب من هذه الحدود سيكلفه موقعه السياسي وحلمه بالزعامة، ويعلم من جانب آخر أن الأميركان والإنكليز يراهنون عليه أكثر من مراهنتهم على المالكي.
في عالم اليوم وفي ظل ظروف العراق والمنطقة حلم الزعامة السياسية شيء ومتطلبات الإذعان لمقتضيات الحاكمين بهذه الظروف شيء آخر، ولكن الأهم هو رصيد العراقيين الأصلاء.