بعد عيد رأس السنة الميلادية، وفي الساحة الرئيسية لمدينة نيستفيذ الدنماركية الهادئة التي أعيش فيها هربا من جنّات ديموقراطيات الشرق الأوسط منذ ما يقارب الأربعة عقود، سيقف عمدة المدينة كاستين راسموسين ( 54 عام) الذي خسر منصبه بعد الأنتخابات البلدية الأخيرة الشهر الماضي ممسكًا مكنسة، لا لأنه أُجبر على العمل، ولا لأنه يمثل دورًا كما يفعل غالبية ساسة العراق، بل لأنه ببساطة عاد إلى عمله. انتهت السياسة بعد خسارته منصبه، فبدأ العمل. انتهى المنصب فبقي الشرف، هذه الكلمة اللعينة الغائبة عن قاموس الغالبية العظمى من ساسة العراق. شخصيا قابلت هذا الرجل مرات كثيرة في الشوارع والاسواق والندوات، علما من انني لم اصوت له وحزبه مطلقا، قابلته بلا حمايات ولا قوافل من السيارات المصفحة ولا خوف من الناس، لماذا!؟ لأنّه يعرف جيدا من أنّه ليس سوى موظفّا عند ناخبيه وغيرهم، ولم يقل يوما من جاء ليبقة أو لن يعطي منصبه لأحد مطلقا. أنا أعيش في هذه المدينة، قابلته مرارًا في الشوارع والأسواق. بلا حرس، بلا أسوار، بلا خوف من الناس. كان يعرف أنه موظف عند المجتمع لا مالك له.
أمّا في العراق، فالسياسي لا يعرف المكنسة إلا إذا كانت تكنس خلفه الأدلة التي تثبت فساده وسرقاته ونهبه. لا يعود إلى الناس، لأن الناس بالنسبة له خطر بعد أن كذّب عليهم لمدة اربع سنوات عجاف. كما لا يعود الى عمله لأنّه لم يكن يعمل الا كرجل أعمال كدّس ثروته من الفساد والنهب بعد ان تقاسم كعكة ثروات الشعب مع لصوص آخرين وفق مبدأ لنغطّي عن سرقات بعضنا بعض وترجمتها السياسية هي المحاصصة الطائفية القومية.
في العراق، السياسي لا يعرف معنى الخسارة، لأنّه سيعود الى منصب آخر مستفيدا من حصانة قانونية وحزبية وطائفية وقومية وراتب تقاعدي خيالي، كما وأنه يعود كرجل اعمال ليفتتح مستشفيات ومدارس وجامعات اهلية، يعود بوجه لا يختلف كثيرا عن سابقه ليخرّب ما فشل في تخريبه سابقا.
العمدة الدنماركي يخاف من القانون، أمّا ساسة العراق فانهم فوق القانون، لأنهم يكتبون القانون بانفسهم وعلى مقاس سرقاتهم وفسادهم ونهبهم، بل وحتى خياناتهم بحق البلد وشعبه. أنّ المقارنة هنا ليست بين أشخاص بل بين نظامين سياسيين أحدهما شريف والثاني ساقط فقط، بل مقارنة بين ضمائر ” ملحدة” تحترم شعوبها وتعمل على رفاهيتها وتقدمها، وضمائر مؤمنة بالله تسرق شعوبها وتعمل على افقارها وتخلفها. هنا في الدنمارك يعتبر المنصب اختبارا اخلاقيا، وفي العراق حيث القيم الاسلامية وتراث آل البيت فالمنصب جريمة متكاملة وهذا ما نشاهدة منذ الأحتلال لليوم.
مأساتنا لا تكمن في سرقات الساسة ومن حولهم من رجال دين ورجال عصابات، بل في إعادة انتخابهم كل مرّة، وفضيحتنا ليست بفشلهم والعياذ بالله، بل بمكافئتهم على فشلهم بحضور مضايفهم العشائرية والهتاف خلفهم بعلي وياك علي. في الدنمارك يرحل المسؤول والدولة باقية، في العراق تسقط الدولة والقيم والأخلاق والتاريخ وحتى الدين غير الطائفي، ويبقى المسؤول! المكنسة هنا اداة عمل، وفي العراق وهي تكنس خزائن البلد ليست سوى نظام حكم.
هذا الأمر ليس قدرا ولا لعنة جغرافيا، بل تجذّر وعي وغيابه، تجذّر وعي لأنتخاب الصالح، وغياب وعي في أنتخاب الطالح من طبقة سياسية تحكم بلا خجل وتسرق بلا خوف من قانون أو ضمير، مطالبة الناس بإحترامها لأنّ سرقاتها مغلفّة بقدسية الدين وعمائمه. وحينما يستعيد العراقي وعيه الغائب، لن تنفع لصوص المال العام الحصانات ولا المواكب والحمايات، ولا العمائم والدين والشعارات..الدول لا تُدمَّر بالحروب فقط، بل تُدمَّر عندما يتحول السياسي إلى سارق، والسرقة إلى نظام حكم.