يوميات رامبرانت:الرسم بوصفه طريقة حياة

يوميات رامبرانت:الرسم بوصفه طريقة حياة
آخر تحديث:

أمجد ياسين

من الممتع ان تكتشف ان رامبرانت هارمن زون فان زرن المتوفى العام  1669  الرسام الهولندي المميز والكبير كاتب ايضا، فيومياته التي ترجمها الى العربية الشاعر والمترجم ياسين طه حافظ  تحت عنوان “ يوميات رامبرانت” في 204 صفحة من القطع المتوسط والصادرة عن دار المدى 2016 كانت اكثر من رائعة.. هي ليست رسائل فقط بل نصوص تغمرك بصورة ذلك الزمان واحواله وطبيعة الناس والاماكن فيه، فضلا عن حياة الرسام التي يرى فيها كل هذه  البهجة والفرح. في رسالته “ 10 شباط” يكتشف القارئ ان بائعة سمك تتصدق على رامبرانت العظيم لها وجنتان جميلتان ووجه باسم وخدان مشعان مثل تفاحتين طازجتين ببضعة قروش ورغم رفضه للامر” لست شحاذا “ الا انها اصرت قائلة : “حسنا حتى الرسامون يجب ان يأكلوا أليس كذلك؟” وكل هذا بسبب سمكة رنكة وجدها على الارض قريبة من كومة بائع سمك وهي ليست له. ان غنى العبارات التي ترجمها حافظ وكتبها رامبرانت وهو يصف الاشياء وكأنه يرسمها , فضلا عن التخطيطات ( للرسام اوسكار غريلوا) التي جعلت من الكتاب اشبه بفصول قصة، ولما لا فهي يوميات – جنس ادبي فرض نفسه على الساحة ينظر له بعين الرواية احيانا. رامبرانت الذي يستحضر المستقبل والآخرة والوجود الذي يرى نفسه غريبا فيه، وهي غربة الفنان المبدع، من نظرات الناس اليه  وهو صغير حتى كتابة يومياته هذه، ومن ملاك يتراءى له ، ينادمه، او يترك خلفه ريشة اشارة تشد رامبرانت الى خيال آخر غير الذي يعيشه كرسام لم يغادر هولندا الى غيرها من بلدان العالم ، حتى انه لم يغادر مدينة ليدن الا الى العاصمة امستردام واستقر فيها.. رسامنا وكاتبنا هذا الذي يمتلك من براعة كتابة اليوميات الكثير الذي يمتعنا بوصفه واحالاته التي ترسم ايامه بحبر الفن والمشاهدة والسخرية … وهو يتجول في نفسه اكثر مما يتجول في بلده ، فيستوقفه طفل يخط بعصى رسمة كلب على الرمال او صخرة او زنجيان يتزلجان في يوميات حملت عنوان “ 8 شباط “ وكأنهما كما يصف” ضربات قلمه على ورقة ومثلها حذران “ ومنها نعرف رأي هذا الفنان المطلق الروح والوعي وموقفه من قضية العبودية آنذاك فكتب:”  لم يعودا عبدين مثل اخوانهما، يبدو انهما خادمان عند احد اللوردات ، فهما اكثر ترفا وان بعدا عن وطنهما وقسى عليهما البرد” في هذه السطرين يروي رامبرانت قصة العبودية في اوروبا آنذاك وتسلسل مراتبها بين العبد والخادم , اما الحرية فلم تكن موجودة بعد لانهما ليسا حرين حتى وان استغلا ليرسمهما رامبرانت فاجور الرسم ترجع الى سيدهما الذي عليه ان يتفاهم معه لاحقاً. الرسم عند رامبرانت قصة حياة وهدف سعى اليه بجنون “ هكذا أردت حياتي  وبحثت من قبل عنها” وهو لا يتبرم من تجارب حياته السلبية والايجابية لانه احتاج ان يعيشها كلها ويتلمس لحظات سخونتها وحدتها، فيقول:” اتنفسها مثل الالوان التي اخلط واعجن.. لا بالفرشاة والسكين ولكن باصابعي ايضا”  ويصف هذه حال الاغواء هذه “ القتال من اجل الحب، لحما بلحم.. ولم يعد من فارق عندي  بين اليد التي ارسم واليد التي ترسم” فاية درجة وصلت حال الانصهار بين المبدع وادواته التي يخلق منها ذاته والجمال ليبدع. فهو يعد  نفسه كسطح اللوحة التي مرت وتكومت عليها تجاربه  ويصف هذه العلاقة في يومياته “ 15 تموز”  :” انها المباهج والتأملات التي احاطها ضوء ذو وهج ذهبي او الق بني ناعم، هي الاصباغ تراكمت وهي المخاوف والشكوك وكل اوقات الهم واسعة وكثيفة، ظلال مغموسة في العتمة والمرارة تصارع ذلك الضوء والضوء يدفعها، يسحبها او ينحني امامها ولكن لا يهرب ابدا من جسامة قوتها، ذلك امر لن اقبله ابدا”.  ان هذا التداخل الفريد في رسام يرى نفسه الوانا تطحن وتعجن لتتشكل، وقطعة قماش يرسم فوقها، يدير الصراع على اللوحة ولا يقبل بالهزيمة فهو ذلك الضوء والصراع وهو لا شيء بدونهما ، هي قصة خلق عمل فني وقصة رامبرانت التي ترى النور كلما مسك فرشاة وعجن الوانه التي تنمو في رحم الارض، الارض التي نأت كلنا منها  لتتحول الى الوان حية مثلما يتحول “المعدن الخسيس الى ذهب” كما يقول . لرامبرانت الانسان الكثير مما لم نكن نعرفه .. وربما اضاءت هذه اليوميات بعضا من المخبوء في سنوات حياته. فهو المنتصر للحرية ضد العبودية وللطفولة ولكبار السن ولقيم الفن ضد تلميذ طائش نزق وللمرآة والعائلة .. رامبرانت الذي يجد بركات الحياة في زوجته وشعاع شمس او مويجات ماء او زنبقة او ابتسامة او حساء او كسرات خبز تذكره بأمه الخبازة وابوه الطحان، او امرأة جميلة .. لم يتبرم من حياته يوما رغم مديونيته وافلاسه..  باختصار هو فنان يرى في حاجة نقل منظر او مشهد كما يقول الى لوحة متعة ما بعدها متعة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *