آخر تحديث:
رشيد الخيّون
مرت قبل ثلاثة أيام الذكرى الرابعة عشرة (9/4/2003) على الغزو الأميركي للعراق، ومجيء نظام آخر، معالم دولته ما زالت غير واضحة، فالدولة تشظت على عدد الرؤوس المتنفذة، والعواصم النافذة، ولسان الحال ينشد لدِعْبل (قتل 220هـ): «الحمدُ للهِ لا صبرٌ ولا جلَدُ/ولا عزاءٌ إذا أَهل البِلى رقدوا/خليفةٌ ماتَ لم يحزنْ له أَحدٌ/وآخرُ قام لم يفرحْ بهِ أحدٌ» (الأصفهاني، الأغاني). فبعد تمام القمر المفترض أصبح انتظاره سراباً، لِم حصل ذلك وكيف حصل؟ كما أن الحزن على نظام هيأ الركائب وقَدم المبررات لِما جرى يُعد اعتزازاً بالإثم، مِن قِبل مَن ألبسه ثياب المديح، لكن منطق تقلبات العراق يقول: «سيئات المتأخرين حسنات للأولين».
استضاف «ديوان الكوفة الثقافي» بلندن (8/1993) الأديب جعفر رائد سفير إيران، في عهد الشاه، لدى الرياض، للحديث تحت عنوان: «رشفة مِن كأس الخيام»، وفي الختام دعا رائد صديقه الشاعر السعودي حسن القُرشي، ففاجأ الأخير الحضور بإهداء قصيدته إلى الفنانة ليلى العطار، التي قُتلت (1993) قبل شهرين بضربة الصواريخ الأميركية على بغداد، فلما نطق الشاعر اسم الفنانة هاج بعض الحضور، وبصيحة واحدة: «فنانة صدام!»، فترك المنصة وهو يتمتم: «طيب، طيب، خلاص»!
كانت العواطف هائجة، لا تفرق بين الفن والسياسة، بينما الفنانة ذهبت ضحيةً، مثلما ذهب، فيما بعد، المئات قتلاً واغتيالاً من أكاديميين وفنانين وصحافيين وكُتاب وأطباء وبقية طبقات المجتمع. مع أن الغرباء ذكروا الفنانة بأسى لفنها، واستاؤوا لجريمة دولية ارتُكبت بحقها، بينما اعتبر العراقيون الغاضبون قتلها كتنفيذ عقوبة، بل هكذا كان يُعتبر مَن لم يُهاجر من المثقفين عميلاً! أقول: متى كانت الهجرة عن الأوطان بطولة ونضالاً، لمَن لا يُريد الخوض في السياسة؟! لم يُحصر الكراهية في النظام نفسه، بل تفرعت إلى الأموات، ولا نعلم هل ما زالت الفنانة العطار تُعامل كشهيدة؟ وهل يكفي ما حصل لها ولنا، ولأهل العراق كافة، غسلاً للكراهية من الصدور، ونعيد قراءة رثاء الشاعر القُرشي لها، وبعاطفة أُخرى؟!
للأسف استمر ذلك الشعور وظل يمارس، فبعد أربعة عشر عاماً، واجه الفنان العراقي، صاحب الصوت الشجي، حسين نِعمة، بنبال من التجريح لأنه ظهر في صورة مع مصممة الأزياء الشابة بنان حسين كامل، خلال مهرجان فني، أو مع والدتها، قبل فترة وجيزة، فاشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي والكتابات ضده، وضد مؤسسة «قنديل» الكردية العراقية التي أقامت المهرجان، وفازت المصممة بنان في مسابقة الأزياء، وظهرت أمام الشاشات مصرحة عن سرورها بالفوز، آملةً في تكريس الوحدة العراقية، بكلمات بسيطة معبرة عن واقع الحال.
كان الاعتراض يصب على فوز حفيدة صدام في المسابقة، ولأنها حفيدته فليس لها غير وراثة الانتقام، وإذا أطلقنا العنان لعاطفة الثأر، فسيمتد إلى أحفاد الأحفاد، وستتبادله الأجيال جيلاً بعد جيل. ماذا تريدون من بنان تقديمه، كي تنتهي عقوبتها لأنها حفيدة فلان وابنة فلان، وقد قُتل أبوها وعمها (1996)، من قبل نظام جدها نفسه، وأُعدم جدها وعدد من أركان إدارته (2006/2007)، والبقية بين منتظر لتنفيذ الإعدام، أو سجين مدى الحياة، وأُعلن الاجتثاث على حزبهم، وصودرت منازلهم لأركان النظام الجديد. فماذا بعد؟!
أقول: إذا كان آل علي بن أبي طالب مثالاً يُقتدى به من قِبل القوى المتنفذة في الحُكم والمهيمنة على الناس بالحس المذهبي، فعلي بن الحُسين (ت 99هـ)، اكتفى بقتل قتلة أبيه المباشرين، وبعدها دعا بالنصر لأهل الثغور، ومعلوم أن أهل الثغور يؤلفون الجيش الأموي (الصحفة السجادية)، وبعد ثلاث سنوات من واقعة كربلاء، صار من دخل بيته آمناً، واحتمى به كبار القوم هرباً من القتل في وقعة الحَرة بالمدينة (ابن عبد البرّ، الاستيعاب)، وأن أخته سُكينة (ت 126هـ) تزوجت بمصعب بن الزُّبير (قُتل 71هـ)، وهو نجل خصم جدها في معركة الجمل (36هـ). هذا غيض من فيض، في ما آلت إليه مصائر أحفاد الخصوم من زواجات وصداقات وعيش مشترك.
قد يبرر شعور الانتقام من قِبل المعارضة، فغضبها لا سقف له، مع مرارة الهزيمة، لكن المسؤولية في خِطاب المنتصرين، فخلال أربعة عشر عاماً من السلطة، لم يتقدموا خطوة في التأثير الإيجابي على العواطف، والعمل على لجم الثأر، واحتضان أبناء وأحفاد الجميع، وإشعارهم أن هذا الوطن وطنهم، وإلا لا جرم على من يساند «داعش» مثلاً.
سيبقى العقل السياسي غبياً وعاطلاً، وعاطفة الثأر تكوي الضلوع، إذا ظل يُفهم قتل الفنانة العطار انتصاراً، وفوز مصممة أزياء شابة تخطيطاً لعودة نظام جدها. هذا، ولشاعر اليمن البردوني (ت 1999): «وأقبح النصر نصر الأقوياء بلا/ فهمٍ سِوى فِهمِ كم باعوا وكم كسبوا» (الديوان، الموصل: أبو تمام وعروبة اليوم 1971).