ياسين خليل.. من العقلانيَّة إلى الاصطلاحيَّة

ياسين خليل.. من العقلانيَّة إلى الاصطلاحيَّة
آخر تحديث:

 

د. رسول محمد رسول

عندما كنت تلميذاً في قسم الفلسفة بكلية الآداب – جامعة بغداد في مطالع ثمانينيات القرن العشرين، رحل الفيلسوف العراقي ياسين خليل (1934 – 1986) مودعاً عمراً أوفاه علماً ومعرفة وعملاً دؤوب الكفاح كفيلسوف مؤثر في المشهد الفلسفي بل الفكري العراقي رغم موته المبكر. في ذلك القسم، حظيت بعام دراسي معه، عدا ذلك كنت أسرق من وقته النفيس لأغترف من علمه الكاثر، وأتضوع من عطر مكارم شخصيته الفريدة، وأنتشي من رياحين أبوته التي كان يجود وجوده وحضرته المعطاء بعبق لكل طالب علم يتوسل محرابه صادقاً صدوقا. حتى عام 1970 كانت رؤى خليل النقدية وهو يتفكّر قضايا الفلسفة قد تبلورت في مكتوباته التي كان هدير خطابها يمضي في دوام لم يصده إلا رحيله المفجع منتصف ثمانينيات القرن الماضي. في ذلك العام كان خليل شدّ الرحال صوب الجماهيرية الليبية حيث العمل الجامعي والهدوء يحيطان به. وهناك في طرابلس الغرب، كان يخط فصول كتابه العميق (منطق المعرفة العلمية)، الذي دفعه للنشر بتكليف من كلية الآداب في (الجامعة الليبية)، ونشر بمطابع دار الكتب في بيروت عام 1971. يبدو لي أن ياسين، وفي بغداد، وقبل سفره إلى ألمانيا دارساً في (جامعة مونستر)، كان قرأ كتاب مدني صالح المبكر (الوجود: بحث في الفلسفة الإسلامية)، وتوقف عند مسألة ما أسماه صالح بـ «ذاتية الفيلسوف»، حتى إن خليل راح يستخدم مصطلح «في فلسفتنا» بكتابه آنف الذكر مراراً للتعبير عن موقفه الفلسفي من القضايا التي يعرض لتفكيك مضامينها التي تتقاطع مع توجّهاته الفلسفية في تلك المرحلة، يستخدمها كتجربة ذاتية، وقبله وبعد مدني صالح كان المفكّر الإسلامي العراقي محمّد باقر الصدر قد استخدم ملفوظ «فلسفتنا» في كتابه (فلسفتنا)، الصادر عام 1959، لكن التجربتين تختلفان من حيث الدلالة؛ فهي تعني لدى صالح وخليل التجربة الروحية الذاتية، ربما الفردية، بينما دلالتها عند الصدر ستنصرف إلى ما هو جمعي يتعلق بالدين والأمة أو الكياني الإسلامي. كمقدمة عامة؛ يعتقد خليل أن العقل البشري لا استقلال له في كيانه، فهو مجرّد بنية فيزيولوجية، ولهذا قال: «إن العقل في فلسفتنا مجرّد وظيفة يقوم بها المخ، وليس له الكيان المستقل الذي عرف في الفلسفة العقلية». وبذلك يكون خليل أول فيلسوف عراقي يداهم الرتابة والتردد في حسم الموقف من (العقل) واشتغالاته في وعي المعرفة والعالم وتوليدهما، خصوصاً أنه يقلل من تأثير (العقل) في (الواقع الموضوعي) بقوله: «إن الاستدلال مجرد طريقة منطقية وتنظيم ضروري بين المقدمات والنتائج». وبذلك، فإن «المعرفة العقلية وحدها تطمس حقيقة التجربة ودورها في بناء المعرفة»، وموقف من هذا النوع يمت بصلة إلى الفلسفة الوضعية التي ناوأت النزعة العقلية، تلك المناوئة التي يدور تفكير خليل في أفلاكها وفق منحى النزعة الاصطلاحية (Conventionalism) التي سار في دروبها رائدا لها في المشهد الفلسفي العربي. تبدو رؤية خليل واضحة هنا، ولذلك راح يتخذ موقفاً جلياً من نماذج العقلانيات الفلسفية الكبرى عبر تاريخها الطويل، تلك العقلانيات التي مارست «تحيزاً مذهبياً» كان من نتائجه «طمس حقائق كثيرة بسبب نظرته الضيقة»، وهو ما فعله بارمنيدس وأفلاطون، بل وأرسطوطاليس حتى، عندما استخدم هؤلاء «قوانين منطقية على هيئة ميتافيزيقية في سبيل بناء نظرية في الميتافيزيقا أو في المعرفة التجريبية». وهذا يعني أن العقلانية التي يرفضها خليل هي عقلانية ميتافيزيقية كانت نماذجها فاعلة لدى أفلاطون وتلميذه أرسطوطاليس «حول المعرفة العلمية البرهانية»، وهي عقلانية تحتفي بـ «الكليات والمثل الثابتة لأنها وحدها موضوع العلم الحقيقي وغاية الفلسفة»، كما أنها تفترض «وجود عالم مستقل للأفكار الهندسية المطلقة غير مقبول افتراضها من الناحيتين العلمية والمنطقية». ولا يقف الأمر عن ذلك؛ فخليل يتصدّى إلى نقد العقلانية الديكارتية عبر نقد القواعد العامة التي يهتدي بها الفكر البشري عندما ينتقل من البسائط إلى المعقّدات، وهي القواعد التي «أغفلت جوانب منطقية عدة مهمة»؛ فالعقلانية الديكارتية تكتفي بـ «الوضوح» كمعيار دون أي معيار منطقي في اختيارها البديهيات، كما أنها عقلانية تسمح لما هو سيكولوجي بالتحكّم الفردي والأهوائي في العلم بينما يلزمها معيار منطقي خال من ذلك، فضلا عن كونها عقلانية يغيب فيها مبدأ عدم التناقض. في أيام التلمذة مع أستاذ ياسين خليل في قسم الفلسفة كان ينصحني بقراءة نصوص جوتفريد ليبنتز المتوفرة بالعربية، كان يهيب بهذا الفيلسوف مكانته الرفيعة في تاريخ الفلسفة، خصوصاً ما يتعلق بدعوته إلى الحساب الفلسفي، وإلى الطريقة الارتباطية في التفكير المنطقي، فضلا عن الرياضيات التعميمية، وكذلك الطريقة الرمزية في تحليل اللغة، إلا أن خليل ينأى بنفسه عن التصدي ناقداً الجوانب الميتافيزيقية في عقلانية ليبنتز! إلى كانط العقلاني النقدي تمتد قراءة خليل لكنها قراءة تحتفي بجانب دون غيره من فلسفة كانط؛ فهذا الفيلسوف، وبسبب أبحاث إسحق نيوتن المتقدمة عليه زمنياً، همّ «باستحداث نظريات جديدة في المعرفة»، كما يقول خليل، بل «وقدم قائمة من المقولات التي يرى فيها بأنها الصور العقلية التي ينظر الإنسان من خلالها إلى العالم الخارجي»، أما ميل كانط إلى «هندسة إقليدس وفيزياء نيوتن فتمثل محاولة جديدة لبناء فلسفة عامة لتحليل الهندسة والفيزياء، وتعيين طبيعة المعرفة العلمية». ولم يبد خليل موقفاً نقدياً من كانط سوى القول بأن نظريته «النقدية في القضايا التركيبية لم تستطع الاستمرار طويلا في حقل الرياضيات أو في حقل الهندسة بعد وفاته». وكان المأمول أن ينظر خليل في الصور العقلية، وأن يتطرّق إلى جوانب أخرى احتفى بها العقل الكانطي وهو يعري الخروقات المحضة الثاوية مسبقا في العقل البشري. هذه صور تفكريّة مررنا عليها في النّص الفلسفي الخليلي همت بنقد العقل الفلسفي من زاوية النزعة الاصطلاحية، إلا أن تجربته في ذلك، ورغم رياديتها الفلسفية، تبقى محصورة في زاوية معينة، ربما لشعوره بأن غيره من الفلاسفة هو المعني بتقديم فرشة نقدية شاملة للاتجاه العقلاني في الفلسفة، وذلك ما أقبل عليه حسام الآلوسي حتى رحيله كفيلسوف راع للمنحى العقلاني في الفكر الفلسفي العراقي الحديث.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *