لمن تقرأ الآن ولماذا ؟

لمن تقرأ الآن ولماذا ؟
آخر تحديث:

أمجد ياسين
 لا يقتصر دور المثقف الحقيقي على قراءة جنس ادبي دون غيره، هكذا يفترض، لان الكتابة فعل ينمو عبر البحث عن مصادر قراءة متنوعة ومتجددة ،  تحيلها من فعل / نتاج عادي الى فعل/ نتاج ابداعي، يستنطق النصوص ويجاريها في مساربها النقدية والشعرية والسردية.. لينتج لنا نصا مغايرا ، فيه خلاصة وثمرة قراءات وفهم وتأويل مختلف ولكن بنكهة صاحبه ومقدار ثقافته التي كلما تنوعت غنت، واصبح وقعها اكبر على المتلقي. {لمن تقرأ}، مفتاح لفهم الآخر وتحديد بعض من هويته.. اما لماذا تقرأ فسؤال  يضع فعل القراءة في تفاعل مع محيطه، وكأننا عندما نقرأ  نتهيأ للبحث عن اجابات لأسئلة من صنعنا .. او كما يقول  تولستوي ” كل الإجابات تكمن في داخلك، أنتَ تعرف أكثر مِما هو مكتوب في الكتب.ولكي تتذكرها يجب أن تقرأ “. كان العنوان سؤالنا لعدد من الادباء فكان هذا الاستطلاع.
القراءة فعل 
الناقد والكاتب ياسين النصير وجد في فعل اقرأ ثمة حافز يدعوه للقراءة، فكتب : اقرأ  تحت تأثير فعل الأمر”إقرأ” ثمة نداء كوني يدعوني للقراءة ، أستشعر هذا النداء كلما شحبت ذاكرتي، وقلت مواد تجربتي، وضاقت السبل أمام فكرتي،القراءة بحث، وتجربة، وممارسة، وبدون ذلك أبدو كمن يجدف في البحر. حاليا  اقرأ في كتب عديدة، وليس في كتاب واحد، وعديد الكتب لايعني أنَّها في مجالات مختلفة، إنَّما في مجال واحد ، وهذا ينسجم والموضوع الذي أشتغل عليه.اقرأ الآن “نقد الحداثة في فكر هايدغر”، للدكتور محمد الشيخ، واقرأ “صراع التأويلات” لبول ريكو، وأقرأ في”دراسات في الفكر الفلسفي المعاصر”، لمحمد علي الكردي، واقرأ “الفلسفة في الجسد” لجورج لايكوف ومارك جونسن، وأقرأ “الحقيقة والمنهج” لغادامير، فضلا عن عدد من الاعمال الشعرية.  اما الموضوع الذي يشغلني، وهو ضمن اشتغالي ، كتاب رافقني منذ خمس وثلاثين سنة ولم انجزه لصعوبة المدخل إليه والتوصيف النقدي للمصطلح، وهو “الصيانية والتدميرية”.هذا المشروع الذي ينمو بالقراءة، ولم أفكر يومًا في تركه دون تكملته، ولا ترك القراءة حوله دون استيعاب منهجي لتطور مفاهيمه.

صفة المثقف
يجد الشاعر ابراهيم الخياط  فعل القراءة بين هواية فيصفها كالعشق واضطرار ايجابي محبب الى قلبه، يقول:  ثمة حكمة لطيفة تقول: أحبب ما تعمل حتى تعمل ما تحبّ، واذا سحبنا هذه الحكمة الى ملعب القراءة، أجدني رابطا بين هواية القراءة وواجب القراءة واضطرار القراءة. فهواية القراءة هي موهبة تنشأ وتنمو وتكبر، لا تعرف بداية ولا تؤمن بنهاية، تهبط كالملائكة الصالحين في كل آن ومكان، هي عشق أو كالعشق، هي انصراف أو كالانصراف، هي إدمان أو كالادمان. بينما واجب القراءة هو المحك الذي يبيّن ذهب المقروء من مغشوشه، هو الاختيار الصائب للمقروء، هو المانع للصدأ العقلي، هو التراكم المعرفي، هو الصفة المثقفة قبل أن تكون صفة المثقف. أما اضطرار القراءة، فهو ما تجبرك الظروف الايجابية منها والسلبية، عليها، فقد تكون سجينا أو معتقلا ويتم توفير صحف أو مجلات أو كتب منتقاة في بحبوحة زنزانتك، وهذه هي الظروف السلبية التي أعنيها وأعني بالظروف الايجابية أن تكون – مثلا – طالباً فما عليك الا ان تلتزم بالمنهج وبالمقرر، وفي الظروف الايجابية هذه وضعتني الحياة بعد أن تبوأتُ سنام نصف قرن من 
أعوامها.

بلدة في علبة
مازال المكان الحضن- الأم، الأليف يعتمر في مخيلة القاص والروائي حامد فاضل، فذهب الى القول: لكوني أجرب حظي في الكتابة المكانية، ولي محاولات متواضعة في هذا الميدان، كتلك الأمكنة الظاهرة المنظورة الخارجية الاستقبال التي تجلت في كتابي (مرائي الصحراء المسفوحة) ضمن نطاق التصنيف الأرسطي للحواس ، والأمكنة المخفية الداخلية الاستقبال، التي لا تتجلى الا بعملية تنقيب في دواخلنا، أي أننا نحتاج للوصول إليها إلى إزميل المخيال، ورفش المشاعر، وزنبيل الأحاسيس. وأحسب أني قد فعلت ذلك في كتابيّ (ما ترويه الشمس ما يرويه القمر) و (ألف صباح وصباح) .. لذا فأني ميال إلى قراءة الكتب، والدراسات، والمقالات، التي تعنى بالمكان بكل صنوفه، التي اتفق عليها كتاب فلسفة المكان كالفيلسوف الظاهراتي الشهير غاستون باشلار. وقد استفدت في كتابة روايتي (بلدة في علبة) من دراسة عن شعرية المكان، بعنوان الظاهراتيّة الباشلارية، أو حيوات الصورة الشعرية، لسعيد بو خليط، تشير إلى أن مفهوم حلم اليقظة الباشلاري، يتمثل في أمكنة الألفة، مثل بيت الطفولة الذي كلما ابتعدنا عنه استعادته ذاكرتنا. 

المساحة المختفية
اما الشطر الثاني من السؤال فذهب ضيوفنا وحسب ميولهم واهتماماتهم  كل باتجاه للاجابة عنه، اذ يجد النصيّر في القراءة فعل تكويني، قائلاً: المهمة القصوى لهذا الولع في القراءة والكتابة معًا، هي أنني اصنع عالمي الخاص ضمن هذا العالم الكوني الكبير، وهو طماح صغير لمثقف لايرى في أي إنجاز له أنَّه مكتمل، لذلك يكون البحث عن طريق القراءة بحثًا عن الذات النقديَّة،التي فرضت نفسها على تجربتي، وعليَّ الّا احتذي مسار غيري، مهما كانت المسافة طويلة ومهما كان انجازي فيها قصيرًا أو متعثرًا، أنا ناقد صنعتي الممارسة والتجربة الذاتية، ولم تصنعني الكتب أو المصطلحات المعلبة، لذلك كان “الاستهلال” بداية في النقد العربي الحديث، وكان “الرواية والمكان” باكورة اتجاه نقدي تنامى بسرعة، وكان “المساحة المختفية” قراءة في الحكاية الشعبية، وكان”غير المألوف في اليومي والمألوف” مدخلا سوسيولوجيا لقصيدة الحداثة، وكان”مدخل إلى النقد المكاني” خلاصة تجربة وممارسة في النقد. 
مشاريع وتجارب، يتوازى فيها ما اقرأه بما انجزه، ولم يدر بخلدي يومًا أن أكون مقلدا لأحد، أو صيانيًا في مفاهيمي النقديَّة إلى الحد الذي لا تقبل الحوار والتغيير،انا ابن الحرية المنضبطة، أنا كائن تدميري، بمعنى اعتمد الحرية في التفكير والممارسة المنفتحة البناءة، وما يترشح منها يكون محصلة لمجموعة كبيرة من الممارسات، حتى وأن كانت الممارسات النقدية جزئية أومشبعة بالمصادر المحلية. ثم أغادرها لغيرها، لست ممن يتمسك باية طريقة تبدو لي مغلقة. فالنقد مغامرة مشفوعة بالتجربة وبتسليح معرفي ذاتي. هذه الكتب التي اقرأ فيها، وأدون ملاحظات منها، أجد نفسي اعيد قراءة تكويني ثانية، من خلال قراءتي لما سبق وأن قرأته، فالكتاب لا يفتح صفحاته لك إلا إذا فتحت أنت صفحات ذاكرتك له. وهكذا يبقى الدوران في فلك القراءة طريقة لتجديد المقولات الذاتية. فالقراءة في أي كتاب لا تعني الالتزام بما يقوله الكتاب، بقدر ما تعني الالتزام بما تقوله القراءة فيه، ولذلك تجدني أعيد قراءة بعض الكتب ثانية وثالثة،لأن القراءة فعل ينتج عن فعل.

المسكوت عنه في الخطاب الصحفي العراقي
وجد الخياط في السيميائية نقطة انطلاق للاجابة عن سؤال لماذا تقرأ: أنا الان طالب دكتوراه صحافة في كلية الاعلام بجامعة بغداد، وقد أنهيت لتوّي الكورسين من السنة التحضيرية، وسأباشر بكتابة اطروحتي التي اخترتُ بعد جهد جهيد عنوانها: (المسكوت عنه في الخطاب الصحفي العراقي، دراسة سيميائية في العمود الصحفي في جرائد…) وهذا العنوان جرّني جرّاً، ومجبرا لا بطلا الى السيميائية، ولكنه جرٌّ أركض معه ركضا، وجبرٌ استمتعت به وأعجبني الخضوع المُجدي اليه. ومن هنا صار الجواب واحدا موحدا على السؤالين الجميلين: ماذا تقرأ؟ ولماذا؟، فاذا بي أجيبُ مرة واحدة موضحا ما أقرأ؟ ولماذا أقرأ؟ وبروحي هي السيميائية التي انتبذت أراضيها منذ سنين ولكنها كانت سياحة في بستان فيما الآن أغور وأحرث وأنثر وأزرع وسأحصد وفقا للقول الحميد: البدايات الصحيحة تؤدي حتما الى نتائج صحيحة . وهكذا تراني أنادم دي سوسير مرة، وفي مرة أتجول مع بيرس، وما أن أفطر مع جيير فيرو حتى تراني على مأدبة غداء في مدرسة باريس، واذا كانت العصرونية مع بنكراد فإنّ شمس الاصيل تذهّب جلستي مع الرفاق الروس، وحتى وقت فراغي أقضيه ماشيا أذرعُ الشوارع داخل مربع غريماس، ولعلاقتي الحميمة بالأدب فإن رفقتي سابقة لبارت وإيكو وتوطدّت.

سكة الذاكرة
لأني أطمحُ أنْ أكونَ مَعْلَماً، وليس اسماً في طريق الابداع القصصي والروائي الجميل المُعّذِبْ، المزدحم بالسائرين، المسرعين منهم والمبطئين، المتنافسين للوصول إلى مصطبة زقورة هذا الضرب من فنون الأدب.. ولأن ذلك السمو، يتطلب الاستعداد النفسي، ويستدعي المخيلة الخصبة، ونصاعة الفكر النيّر، وسعة الأفق، وثقافة الانتقاء، ولكي تهتز بقعة الخيال وتربو، لتُنبت بذرة الكتابة الابداعية، التي إذا ما استوت على ساقها. أورقت، وأزهرت، وأثمرت. يقول فاضل: فإنَّ ذلك يستدعي القراءة الشاملة المفتوحة على آفاق المعرفة الانسانية، التي لا تقيدها أوتاد الزمان ولا تفصلها حدود المكان.. فقد ينتقل قارئ الى القطب المنجمد الشمالي، فترعبه أصوات العواصف الثلجية، وتغشي وجهه ثياب الغيوم، وتحط على أكتافه طيور الصقيع، وقد يفاجئه منحدر ثلجي، فيجلد كلاب  زلاجته  (Dogsled) مرعوباً، وهو جالس في متنزه صيفي، وبين يديه كتاب (تحت سماء الجليد) لجاك لندن.. ذلك لأننا كقراء مدمنين، عندما نصل الى عتبة باب القراءة، وندخل في حضرتها، تفصلنا طاقية قبتها عن الذين لا يقرأون، تُخفي صور الآخرين عن أعيننا، فلم نعد نبصر إلا ما في سطور الكتاب، وقد ندخل في آلة اختراق الزمن، فنبصر الماضي بأعيننا، ونحن نقرأ كتب التأريخ القديم، ونستشرف المستقبل ببصائرنا، ونحن نقرأ قصص وروايات الخيال العلمي. أو نحشو عربات قطار الحاضر بالقصص والروايات المعاصرة، ونتركه ليسير على سكة الذاكرة.. تلك هي طقوس القراءة، التي إذا ما وصلنا إلى حالة التهجد والاندماج بها، تَحَوّل الكتاب الى بساط سحري، وحملنا إلى عالم العقل والكتابة الخلاقة..

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *