التاريخ والرواية والسينما

التاريخ والرواية والسينما
آخر تحديث:

طالب عبد العزيز 

 توفّر القراءة في جانب منها متعة قلما نصادفها في حياتنا، وهي تمنحنا متعة الاكتشاف أيضاً، لكنَّ السينما تمنحنا متعاً مضافة، نستحضر معها ما قرانا وشاهدنا وسمعنا. لا أعرف كيف قفزت إلى ذهني الشخصية السينمائية للقرصان جاك سبارو، وأنا أتصفح كتاب (تاريخ القراصنة في العالم) وبعد إعادتي قراءة رائعة سرفانتس دون كيخوتة، إذ سرعان ما اشتبكت في رأسي التواريخ والمدن والأفعال والممالك والبحار والغابات في متعة قرائية وعيانية لا حدود لها.

 وإذا كان القرصان جاك سبارو المولود في 1553 شخصية خيالية صنعتها السينما الاميركية، وجسدها الممثل العالمي جوني ديب، فإن التاريخ يحدثنا عن شخصية حقيقية باسم جاك وارد، ويعرف باسم جاك بيردي، ولد في المملكة المتحدة، زعيم القراصنة في البحر الكاريبي، وهو محارب عنيد، لكنه مخاتل، ويحاول الفرار في المواقف الخطرة، فقد هرب بسفينته الى تونس في أواخر القرن السادس عشر واعتنق الإسلام مع بحارته، ولحبّه إلى الطيور أطلق عليه اسم كلمة عصفور، التي تعني بالانجليزية سبارو.

  معلومٌ أنَّه في القرنين الخامس عشر والسادس عشر نشطت حركة القرصنة في حوض البحر المتوسط، وكان الصراع دائراً بين المُستعمرَين الانجليزي والاسباني ثم دخل الأتراك المسلمون وكلهم يستميل القراصنة اليه، في محاولات للسيطرة على البلاد أو الجزيرة المتنازع عليها. لذا نجد إسبانيا تستعين بالاخوين بارباروسا، اللذين اشتهرا في الوقت ذاك باسم البحَّارة الذين لا يقهرون. فقد نزل عروج (1447- 1516) إلى المدينة احتلها ونصَّب نفسه سلطاناً عليها باسم بارباروسا الأول، وبعد معركة ضد الإسبان قُتل فيها، فصعد شقيقه خير الدين (1465-1546) ونصب نفسه سلطانا باسم بارباروسا الثاني.

 ولو تتبعنا دواعي سرفانتس في كتابته للدون كيخوته ورغبته في انتزاع البطولة لنفسه، وخلق اسطورته القتالية من جانب والتوق الشديد عند مساعده (سانشو) لامتلاك جزيرة، أي جزيرة من جانب لوجدنا مأخوذين في الحديث الى الخرائط الجغرافية والسياسية في الزمن ذلك، داخل وخارج البحر المتوسط، حيث تكون اسبانيا مملكة عليه، وتركيا سلطنة عليه أيضاً، وإلى التباين في قوة هذه وضعف تلك، إذ سيكون بمقدور أيّ فرد حيازة الاسم واللقب والشهرة والمال سواء بالتقرب من التيجان الملكية، والعمل تحت إمرة رجالاتها أو بمخاصمتهم، والوقوف بالضد من سلطتهم، لصالح آخر قوي، قام فمسك البحر في مكان ما، ومن عجز عن هذه وتلك فسيكون بإمكانه خلق حلمه الشخصي، باصطناع البطولة وحيازة الجزر والامكنة مثلما فعل سرفانتس. 

 هل تأثر سيرفانتس بعالم القراصنة الذي كان حديث الناس في القرنين الخامس والسادس عشر الميلاديين، وهل كانت قصص القراصنة ضمن ماقرأ وسمع؟ بكل تاكيد، فقد شهدت الفترة تلك أعنف المعارك بين الاسطولين الانجليزي والاسباني وكانت سواحل البحر المتوسط خلّاقة في صنع الأساطير، وأضفاء القصص والاخيلة عليها، لكنْ إذا كان القراصنة قد اتخذوا البحر مسرحاً لأفعالهم الحقيقية فقد اختار دون كيخوته الأرض مسرحاً لمعاركه وأحلامه، فهو العبقري الذي تقلب في الحياة والبحر والمعارك قبل أن يكون كاتباً. ففي العودة إلى شخصيته نجده يقترب من شخصية القرصان بارباروسا، فقد ولد في 1547 وانخرط في الجندية سنة 1568 وكان صعب المراس، واشترك في معركة بحرية سنة 1571 بين الأتراك والبنادقة الاسبان، وأمضى خمس سنواتٍ أسيراً في الجزائر، يوم كانت الجزائر مركزاً للأعمال البحرية التركية والإسلامية، ياوي إليها القراصنة من أنحاء الدنيا، وإذا كان سرفانتس قد كتب الدون كيخوته ساخراً من عالم الفروسية والفرسان والبطولات التي تنشأ من ذلك، فقد كان ناقماً بوعيه من عالم القراصنة، الذين أنشؤوا الممالك والمقاطعات بوحشيتهم واستباحتهم مال الناس.   

 يستفيد مخرج فيلم القرصان الأسود The Curse of the Black Pearl من البطولة المصطنعة أو الزائفة الـ (دونكشوتية) عند سرفانتس، من خلال سيفه الخشبي وخوذته الخيش فنجد القرصان سبارو (جوني ديب) في الفيلم، وهو يستجوب من قبطان السفينة، بعد أن قام بإنقاذ الجميلة اليزابث من الغرق، إذ سيتضح أنَّ مسدسه بلا عتاد، وأن خريطته لا تشير الى الشمال، لكنه يطمح إلى السيطرة على السفينة الأخرى في حركة كوميدية خارج الانفعال في المشهد الجاد، الذي يعرض حياته الى الموت. بين شخصية القرصان الحقيقي بارباروسا في كتاب (تاريخ القراصنة في العالم) والقبطان الصعلوك سبارو في فيلم ((The Curse of the Black Pearl وكتاب دون كيخوته لسرفانتس مشتركات كثيرة، تتضح كلما اقتربنا منها.  

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *