بغداد/شبكة أخبار العراق- من الممكن أن يُزَوَّر التاريخ لكن لا يمكن أن يُقتل. وإن كان التزوير نوعاً من القتل، غير التام، فما مِن جريمة كاملة، إذ لابدّ من ثغرات مهما كانت صغيرة تنفذ منها الحقائق. وها هو التاريخ أمامنا معزّز بالشواهد على هذه التسريبات للحقيقة المغفلة الأخرى، حتى لتستوي تاريخاً آخرَ.في جريمة متحف الموصل، مهما تعددت الآراء و”الاجتهادات” لتأويل حقيقة ما جرى هناك، وأيّاً مابدت عليه هذه الاجتهادات من وجاهة أو عشوائية أو ما اكتنفها من “غايات”، إلا أنّ المؤكّد والراسخ، أنّ ما حدث في قاعات المتحف كان تجسيداً للانحطاط والعمى والحقد الساعي للتشفي بالعراق وتاريخه، إذ لم يكن الجناة، سواء من منفذين مباشرين أم مَن يقف وراءهم، على جهل بما يرتكبون، بل كانوا على وعي ودراية فقد أُريد من فعلتهم، قبل كل شيء، وبعيداً عن أي مشجب ديني كاذب لتعليق أسباب هذه الجريمة عليه، إغاظة العراقيين واهانتهم، وليعذرني القارئ لاستخدام الكلمة الأخيرة، بدليل الطريقة التي عوملت بها موجودات المتحف أمام الكاميرات، فالعلنية كانت هي المتوخاة، لا مجرد أداء المهمة وحصرها بين الجدران.بكلمة أخرى لم يكن تهشيم التماثيل هو الغاية، إذ لو كان الأمر كذلك، لما كانت هناك ضرورة لإخراج هذه الجريمة الى فضاء الإعلام. وبقدر ما ينزع تنظيم داعش إلى توثيق أغلب ممارساته الظلامية وفظائعه المختلفة وإيصالها الى العالم، ليعطي أكثر من رسالة وفي أكثر من اتجاه، غير أنّ فيلم متحف الموصل، كان يستهدف العراقيين قبل غيرهم، حنقاً وحقداً. ففي إشهار هذه الجريمة وتنفيذها بالشكل الذي بدت عليه تأكيد لذلك. لكن بالنسبة للعراقيين فإن التاريخ هو ليس مجرد الحجر وإن كان شاهداً أساسياً على لحظته التاريخية التي يولد بها، ولو هو هذا الأهم، على البراعة والموهبة والتفتق العبقري العراقي، في أطواره الحضارية كافة. هنا تكمن القيمة الأساس لأي أثر أو شاهد حضاري فقيمته في عبقريته أما الزمنية فلاحقة أو مكملة، وإن بدت من صُلبه، وقد يخالفني البعض هذا الرأي، طالما الحديث عن التاريخي. لكن التشديد هنا على ما هو فني ـ جمالي، إذا كان المتوخى هو حداثة “الأثر” المستمرة، النافذة عبر الأجيال والعصور، كما في مجال النحت، الأكدي أوالسومري أو الآشوري، مثلاً. وعلى الرغم من الفروق ما بين مراحله، أو مبعث الحاجة أساساً لنشأته،إلا أن النحت العراقي القديم بمجمله كانت له خصائصه، وقبل كل شيء رياديته ما جعله مؤثراً في حضارات عالمية أخرى، كما في المصرية واليونانية، حسب دراسة لسعد هادي عن النحت الرافديني وسياقاته. إذاً الحضارة العراقية هي ليست بالشيء الدارس، بل على العكس فهي مصدر الهام وإرث عالمي شاخص مُبهر كمعجزة لا تُستنفد. من هنا لاخوف عليها من الاضمحلال وهي شاخصة في وجدان أبنائها بهذا النسغ الإبداعي المتوارث، كمبدعين متمثلين لمنجز أسلافهم. لذا يبدو التاريخ العراقي غير قابل للإبادة، ولا يمكن أن يتأتّى ذلك لأحد، وما الفؤوس والمعاول النابية في متحف الموصل إلا لإغاظة العراقيين أكثر مما هي لقتل تاريخهم. فالمنجز الحضاري العراقي روح، وما من روح قابلة للموت. قد تُجرح، تتألم. لكنها خالدة، لاتفنى. والخلود هو صنعة العراقيين، أو محاولتهم على الأقل لتقييده في ألواحهم، فالتاريخ البشري بأسره موشوم بخطى كلكامش الى عشبته. العالم من طين الرافدين يكفي أن تفتح أية موسوعة عالمية لتزدهي، أيها العراقي، بقراءة من قبيل :أنّ أول عجلة دارت على الأرض كانت في شوارع أور، وأن السومريين قد اخترعوا دولاب الخزّاف، دلالة شغفهم النحتي واحترافيتهم لهذا الفن. وأن “ملحمة كلكامش” هي أقدم الأشكال الأدبية الكبرى التي عرفتها البشرية. وربما لم ينتبه أحد أو يربط بين التقنية المعتمدة فيها وما تعتمده الرواية الحديثة، اليوم، لجهة توالد أو تعدّد الحكايات الى جانب الحكاية المحورية فيها. لكن طه باقر يشير، في مقدمته للملحمة، الى تعدد القصص فيها والى انتهاج المؤلف أو “المؤلفين” طريقة ربط قصة بأخرى، مشبهاً هذه الطريقة بتلك المعتمدة في كل من “كليلة ودمنة” و”ألف ليلة وليلة”. وإلى هذه الأخيرة، وهي أثر عراقي أيضاً! يردّ بورخس أصل ما تعتمده الرواية الحديثة من تعدّد الحكايات أو انبثاقها من بعضها، داخلها، ولو كان بورخس قد اطلع على “ملحمة كلكامش”، لكان له رأي آخرـ وأثناء قراءاتي له كنت متنبّهاً لأية إشارة منه لذلك، لكن لم أجد ـ ولهذا حديث آخر. وتقرأ ما سطره ريلكه عن الملحمة في رسالة له العام 1916: “ملحمة كلكامش مذهلة، أعتبرها من أهم الأمور التي يمكن أن يصادفها الإنسان.. لقد أغرقتُ نفسي فيها، فخبرت تلك الكسر الهائلة من الألواح المفخورة أنظمةً وأشكالاً تنتسب الى الأعمال المجوّدة التي أنتجتها الكلمة الساحرة على طول تاريخها”. ومن اللافت ان الملحمة قد فُسّرت ودُرست دراسات متباينة ومتنوعة، منها ما قامت به الألمانية ريفكا كلوغر من تطبيق منهج الحليل النفسي عليها. أما روبرت تيمبل فقد فسرّها تفسيراً فلكياً، واجداً علاقة بين أبطال الملحمة وبين بروج النجوم والكواكب، كما يشير لذلك الدكتور صلاح نيازي في دراسته الشيقة العميقة “فن الشعر في ملحة كلكامش”. وتطالع، مزهواً، ما جاء لدى إدواردو غاليانو في مراياه، فقرة بعنوان تأسيس الكتابة: “عندما لم يكن العراق قد صار العراق بعد، ولدتْ هناك أول الكلمات المكتوبة. إنها تبدو مثل آثار طيور. رسمتها ايدٍ بارعة، بقصبات مدببة، على الطين. النار التي شوت الطين، حفظتها. ومازالت ألواح الطين تروي لنا، الآن، ما رُويَ، قبل آلاف السنين في تلك الأراضي التي بين نهرين”. وفي فقرة أخرى يقول ان النساء والرجال ولدوا من طين ضفاف نهري دجلة والفرات. من ذلك الطين صُنعت، كذلك، كتب الحكايات. هي حكاية إبداع متفرّد إذاً، تبدأ مع فجر الإنسان، ولا تنتهي إلا بانتهائه، فكيف يمكن قتل حكاية كهذه تتناقلها شفاه الإعجاب على مر العصور وفي مختلف البقاع وبكل اللغات.
الحضارة العراقية مصدر الهام وإرث عالمي
آخر تحديث: