علي علي
في بداية أربعينيات القرن المنصرم.. كان أوار الحرب العالمية الثانية على أشده، يومها كانت الغلبة للجانب الألماني، وكانت بريطانيا العظمى تعاني الأمرين من النيران التي يقذفها الطيارون الألمان على لندن، إذ وصل عدد القذائف الى مئتي ألف قذيفة في اليوم الواحد، ومن الطبيعي أن يُحدث هذا الكم الهائل من القصف المريع يوميا إرباكا واضطرابا في يوميات أي شعب يعيش وطأته، وأظن خير شعب يدرك حقيقة مثل هذه هو شعبنا العراقي. إذ ما من يوم يمر عليه دون انفجار عبوة هنا.. أو مفخخة هناك.. او حزام ناسف.. او سقوط بضع قذائف هاون او كاتيوشا، وقطعا جُلها تبحث عن المواطن المدني البريء الأعزل، فإن لم تجده في سوق شعبي مكتظ، بحثت عنه في شارع مزدحم بالمارة، وإن لم تصبه في هذا تستهدفه في جامع او بيت من بيوت الله، وإن استعصى عليها نيله في كل هذي الأماكن، قصدته في عقر داره الآمنة اوعلى ناصية شارع من شوارع حيه، إذ تأتيه على هيئة كاتم الصوت في قارعة طريقه، او بلاصقة في عجلته فتصعد الروح باكية شاكية سوء الحال وانعدام الأمان والسلام في بلد السلام.
أعود أدراج حديثي الى لندن في تلك الحقبة، ففي أحد الأيام دعا رئيس وزراء بريطانيا آنذاك ونستون تشرشل وزراءه الى اجتماع طارئ وعاجل للغاية، فتوجه -من ضمن من توجهوا- وزير العدل الى مكان الاجتماع مستقلا عجلته، وبينما هو سائر في طريقه صادف ان عامل النظافة كان يدفع عربة القمامة عابرا الشارع، فأبطأ الوزير سيره فاسحا المجال الى العامل كي يكمل مشواره، إلا أن عامل النظافة ارتبك حين رأى الوزير، واضطرب في سيره فسقطت بعض القاذورات على الشارع، فأوقف عربته لالتقاط الأوساخ الساقطة على عجل، ما سبب تعطيل الوزير بضع ثوانٍ، ففقد أعصابه وأخرج رأسه من نافذة سيارته قائلا للعامل بصوت عالٍ؛ “أحمق”..!
التقط العامل رقم سيارة الوزير وقدم شكوى لبلدية لندن، التي بدورها أصدرت أمرا بعدم رفع النفايات من أمام بيت الوزير، ورفعت الشكوى الى رئاسة الوزراء. وحين عرضت الشكوى أمام ونستون تشرشل طلب من وزيره الاعتذار الى عامل النظافة..! الذي حدث.. ان الوزير استقال من منصبه على الفور وذهب ليقدم اعتذاره الى العامل، إلا أن رئيس الوزراء رفض الاستقالة..! وقال للوزير: “لقد أهنته وزيرا، ولن أرضى تقديم اعتذارك وأنت شخص عادي.. استقالتك معلقة حتى تعتذر من عامل النظافة وأنت تشغل منصب وزير وحينها سأوافق”..! اعتذر الوزير.. ثم قبلت استقالته.
خلال الأيام التسعة التي استغرقتها هذه القضية، تكدست القمامة أمام منزل الوزير بشكل يثير التقزز والاشمئزاز، وصارت رائحة الشارع الذي يقطن فيه لا تطاق، الأمر الذي أجبره أن ينزل كل ليلة لينقل بسيارته الخاصة بعضا منها إلى خارج المدينة.
أسرد هذه الحادثة اليوم وأنا على يقين أن وزير العدل البريطاني قد مات.. وعامل النظافة هو الآخر مات.. وتشرشل أيضا (شبع موت).. وما سردي إياها إلا لتذكير الناسين او المتناسين من أصحاب القرار العراقي، أن دخول الحمام ليس كخروجه، وليكن لهم من هذه الحادثة عظة أن استقالة وزير كانت بسبب تلفظه كلمة غير لائقة، بحق مواطن لايختلف عنه إلا بالصفة الوظيفية، فكيف بحال محافظ هو بدرجة وزير يرتكب إثما كبيرا.. وجريمة شنيعة.. وخيانة عظمى، أفضت تداعياتها الى إزهاق أرواح آلاف العراقيين، وهتك ستر حرائر وانتهاك أعراض عراقيات آمنات في خدورهن، فضلا عن خسارة مساحات شاسعة من أرض العراق، وضياع ثروات لاتقدر بثمن.
أفبعد كل هذا ينفذ محافظ الموصل اللامحافظ أُثيل النجيفي، بمكافأة الإقالة من منصبه فحسب؟.. فهنيئا لك ياخائن الجائزة الكبرى ووسام الخيانة والترقية الى درك الحضيض، مادام حاكموك محاميك.. وقضاتك كفلاءك..