محمد جواد سنبه
في انتخابات عام 2014، أكدت مرجعيّة السيد السيستاني، على ضرورة انتخاب الاشخاص من ذوي المقبولية عند الجميع، و من اصحاب الكفاءة. لكن لم يتغير شيء بسبب احتكار العمل السياسي، من قبل نفس المجموعات، التي كانت على سدّة الحكم سابقاً، مع تغيير في الوجوه و الادوار لا أكثر.
ازداد يأس العراقيين من حصول اي تغيير، في واقعهم السياسي، مثلما ازداد يأسهم من حصول اي تحسن في الخدمات، التي يرجونها من الحكومة. و على العكس بدأت الخدمات تزداد سوءاً، بسبب الازمة المالية التي ضربت الاقتصاد العراقي، جرّاء تراجع اسعار النفط في السوق العالمية.
لم يبقَ أمام شرائح الشباب من العراقيين، إلاّ استخدام حقهم في التظاهر، الذي كفله الدستور العراقي. و كان انطلاق الشرارة من محافظة البصرة، في نهاية شهر تموز الماضي. البصرة هي نفسها تلك المحافظة التي انطلقت منها الشرارة الاولى، لانتفاضة عام 1991 على الحكم الصدّامي البائد. لكن المتظاهرين الذين تظاهروا بكل سلميّة و مدنيّة، معلنين احتجاجهم على تدهور الخدمات في مدينتهم، جوبهوا بقسوة من قبل المحافظ و حكومته، متَّهمين اياهم بأن هناك أَجندة سياسية تحركهم، مما أَدّى الى حصول اعمال عنف، نتج عنها سقوط أحد الشباب شهيداً.
في يوم 28 تموز 2015، أعلن موظفوا و عمال السكك الحديدية في بغداد، عن عزمهم للقيام باعتصامات داخل مدينة بغداد، بسبب تأخر وزارة النقل في صرف مرتباتهم، منذ سبعة شهور مضتّ.
في يوم الاربعاء 29 تموز 2015، نفذ منتسبوا السكك الحديدية اعتصامهم، و أَغلقوا بالقاطرات تقاطعات السكك الحديدية مع الشوارع العامة. و كانت ردة فعل وزير النقل ان اتهمهم (بالمؤامرة)، وان ما فعلوه هو (أَمر دبّر بليّل).
في ظهيرة يوم الجمعة 31 تموز 2015 ، ذكر ممثل مرجعية السيد السيستاني، امام صلاة جماعة العتبة الحسينية المطهرة، فضيلة الشيخ عبد المهدي الكربلائي، عدد من النقاط التي تمثل رؤية و توجهات مرجعية السيد السيستاني، وكان من اهمها:
- معاناة المواطنين في معظم المناطق، جرّاء النقص الكبير في الخدمات، و بالخصوص الطاقة الكهربائية.
- الحكومات المتعاقبة كل منها تضع اللوم على من كانت قبلها، بخصوص الاخفاقات في الخدمات. و كذلك عدم توفر فرص العمل، التي تحقق الحدّ الأدنى من العيش الكريم للمواطنين. و وجود نسبة عالية من البطالة، و الحكومات المتعاقبة، أَغفلت عن وضع خطط لمعالجة المشكلة، رغم الإمكانات الكبيرة التي تتوفر في العراق.
- الفساد المالي و الإداري، الذي يعتبر أُمّ البلايا، بالإضافة الى وجود الإرهاب و الانفلات الأَمني الذي تعاني منه مناطق مختلفة.
- ان معظم المواطنين لازالوا صابرين محتسبين، و لا يبخلون عن تقديم أرواحهم في محاربة الإرهاب الداعشي، و لكن للصبر حدود، حيث لا يمكن ان يطول الانتظار إلى ما لا نهاية.
- دعا الشيخ الكربلائي، الحكومة المركزية و الحكومات المحلية، بإن تتعامل مع طلبات المواطنين المشروعة، باحترام و عدم اللجوء إلى الأساليب الخشنة، في التعاطي مع مطالبهم المشروعة، وحذر من الاستخفاف بها.
- و عنّف الشيخ الكربلائي المسؤولين بقوله: (المأمول من المسؤولين، أن يعملوا على تحقيق مطالب المواطنين، وسدّ احتياجاتهم، و ليتصوروا بعض الوقت أنهم
يعيشون في نفس الظروف الصعبة، التي يمر بها عامة الشعب، عسى أن يتحسسوا معاناة الشعب).
- و في اشارة الى دور المرجعية الدينية، في تغيير معادلة الحرب مع الارهاب، قال الشيخ الكربلائي: (مشاركة المتطوعين إلى جانب القوات الأمنية، تزيدهم دعماً عسكرياً و قوّة معنوية، تعزز قدراتهم الفعلية، و تعكس تلاحماً وطنياً، يثبت وحدة الوطن و يفوّت الفرصة على من يريد التفرقة).
- و لم يغرب عن بال مرجعية السيد السيستاني، دور ابناء العشائر النجباء، في المناطق الساخنة، و حثهم للمشاركة في تحرير مناطقهم. كما أكد الشيخ الكربلائي، على ضرورة تزامن مشاركة ابناء العشائر الغيارى، مع تحرك المسؤولين بالانفتاح على المواطنين، و الشرائح الفاعلة و المؤثرة في المناطق الساخنة، للاطلاع على احتياجاتهم و الاستماع إلى رؤاهم، للوصول إلى واقع أفضل وعلاقات تتسم بالثقة المتبادلة، للشعور بالعيش المشترك، المبني على ان الجميع متساوين في الواجبات.
من الملاحظ في توجيهات مرجعية السيد السيستاني، التي جاءت على لسان الشيخ الكربلائي، انها انتقلت من نبرة ارشاد و توجيه و نصح المسؤولين، الى نبرة التوبيخ و التأنيب، كانذار أولي له عواقب، قد لا يتصور حجمها السياسيون أنفسهم.
و ما أن جاءت ساعات عصر نفس اليوم (الجمعة)، حتى انطلقت مسيرة من ساحة التحرير في بغداد، طالب المتظاهرون فيها، بمحاسبة الفاسدين و تقديمهم للعدالة، و المطالبة بإِقالة وزير الكهرباء. و بعكس ما حصل في البصرة، فان القوات الامنية ساعدت المتظاهرين، و قدمت لهم قناني الماء، تعبيراً عن وقوفهم الى جانب الجماهير المتظاهرة.
من يدقق في سير الاحداث، يجد ان مرجعية السيد السيستاني، تتماشى تماماً مع الطموحات المشروعة للشعب العراقي. و هذا الدّور الأبوي، أسهم بشكل مباشر في ايقاظ الوعي الجماهيري. فالجماهير الآن لا تطالب بتأمين الخدمات فحسب، و انما
تطالب بمحاسبة الفاسدين. هذه الانعطافة الكبيرة في المطالب، سيحسب لها تجار السياسة الف حساب.
لقد بدأت الجماهير العراقية الناقمة على تجار السياسة، تفهم بان التغيير لا بد ان يكون، قبل ان يضع كل شيء في بحر الفساد و المزايدات السياسية الخاوية. و ان ابوية المرجعية الدينية لن تتخلى عنهم، ما دموا يسيرون على طريق الحقّ. إنها جرعة تطلّع لمستقبل جديد، مفعمة بحيوية الشعب. و اشراقة أمل جديدة، تبعث الحياة في صحراء اليأس، التي صنعها تجار السياسة و الفاسدين. و الله تعالى من وراء القصد.