حسام السراي
منذ أن أضافت المأساة فصلا جديدا إلى سيرتها الذاتيّة، بدخول «داعش» العام الماضي إلى بعض المدن في البلاد واحتلالها، برزت نبرة جديدة تكرّست أكثر في مواقع التواصل الاجتماعيّ، بانتقاد من يكتب خارج المزاج العام، في لحظة ما أو في يوم يشهد خرقاً أمنيّاً أو تصعيداً ضدّ مسؤول أو حتى إعجاباً عامّاً بمتسابق لم ينل حظوة التأهّل والفوز في البرنامج المعروف «The Voice»، حيث الفيسبوك الميدان الأكبر لتلمس ما نعنيه من حالات وتشخيصها أيضاً.الحياة عند بعض الكتاب والأدباء، رهينة التطوّرات، تتوقف يومياتهم عند ارتدادات المجريات فقط، يريدونها كذلك لهم ولغيرهم، أطروحاتهم في وجه من وجوهها تقول لك: ما الذي تفعله؟ وأي فعاليّة ثقافيّة هذه التي تبحث لها عن مساحة في شريط الأخبار وهو يحمل أحداثاً ومهالك شديدتي الإيلام؟وأمام حالة مثلِ المشار إليها، تندرج السلوكيات في إطار ردود أفعال يذهب بريقها ربّما في ثوانٍ معدودات، هبّة، وخطابات استنكاريّة، وكتابات غاضبة، ينساها أصحابها بعد ساعات، بالعودة- عبر صفحاتهم الفيسبوكية- إلى صور من الماضي وروابط لأغانِ، ولتكن لقحطان العطار، وفاضل عوّاد، وميادة الحناوي، وصباح فخري، وآخرين.الحق أن الانعتاق من الروح القطيعيّة التي يشيعها بعضٌ من أصدقائنا وغيرهم في مواقع التواصل، ليس بالأمر السهل دائماً، خاصّة مع التلويح بالتشكيك والتخوين واتهامات أقلها تجاهل الهمّ العام. يجري ذلك كلّه على حساب الثقافة وحِراكها الذي تكيّف منذ العام 2003 مع ظروف طوارئ وانفلات خبرناها جيّداً، إذ نتذكر في أي بيئة صوّر فيلم «غير صالح للعرض»، لكنّ فريق العمل أنجزه وقدّمه متحديّاً واقعاً غير تقليدي إطلاقاً، مثلما عرفنا الحكاية المُرّة لمقاهي منطقة باب المعظم التي اختفى كثير منها الآن، مثقفون يتجمّعون في هذه الأمكنة أيّام العام 2006، متحدثين عن التنوير وعلاقة الثقافة بالمجتمع، في حين وعلى بعد أمتار قليلة، كان المسلحون الملثمون يجرّون مواطناً تحت تهديد السلاح؛ لتصفيته ورمي جثّته في الرقعة الجغرافيّة نفسها. ومثال «الأوركسترا السيمفونية الوطنيّة العراقيّة» يصلح هنا للإشارة والاستدلال معاً، فكم من مرّة عزف روّاد وشباب هذه المجموعة المثابرة على خشبة المسرح الوطنيّ ببغداد، و في الوقت عينه كانت الملغمات تضرب أحياء من العاصمة وتوقع العشرات من الضحايا. تسجيل الموقف المسؤول في الأحداث الجِسام، شيء، وأن تتحوّل من دون إراداتك إلى «محلل سياسيّ» شيء آخر بلا شك، يردّد بطريقة ببغاوية عبارات التنديد التي أثبتت الأحداث أنّ حصيلتها واحدة، هي حصد المزيد من علامات الإعجاب سواء في الفيسبوك أم بين فئة محدودة يجمعها لقاء عابر في ملتقى ما. العكس تماماً حينما لمسنا نتائج أخرى للجهد المدنيّ المنظّم، أكان بصورته الاحتجاجيّة المألوفة أم بحضوره الافتراضيّ ممثلا بالكثير من الحملات الناجحة منذ العام 2011.وفي هذا الفعل القطيعي مصادرة لدور الثقافة وأهميتها وترسيخ لقيم العنف والنزعة القبليّة، في أن تطالب جميع من حولك بتبنّي موضوع ما، وكأنّ هذا المشهد يضع خطوطاً عامة وشروطاً لعضوية «جمعية المحللين السياسيين» التي لا ترغب في الانتساب إليها، وان كلف ذلك توصيفك بالمتخاذل أو من جلاس الأبراج العاجية.شكل الاحتجاج، هو الآخر، يحتاج إلى إعادة قراءة، من الأبقى تعليق ساخط أم عمل إبداعيّ يكتسب خلوده من قيمته وقدرته على تسنم مكانة واستحقاق عاليين.يصحّ من باب التذكير التنويه بالمعرض الأخير للفنّان عادل عابدين Immortals»»، وهو يعرض بدبي عبر فنّ «الفيديو آرت» صوراً احتجاجيّة عن سيطرة الميكروفونات ليس فقط على وجه المتحدث الذي يقف خلفها، بل على مفردات المحيط بأجمعه، في التقاطة ذكية بعد معرض احتجاجيّ سابق هو «I›m Sorry». لننتبه إلى بلاغة الصورة وحيزنا فيها قبل أن يلتهمنا الزعيق.
مُصادرة الثقافة والاحتجاج معاً
آخر تحديث: