بغداد/شبكة اخبار العراق- لا أحسب أن شعرية الغربة، في مجموعة الشاعر المغترب عدنان الصائغ (و…)، الصادرة عن دار الروسم – بغداد العام الماضي، لا أحسب أنها المرجعية الدلالية الوحيدة في نصوصها التي توحي لمتلقيها بأفكار متنوعة وتجارب غنية عاشها الشاعر في البلاد والمنفى، بل إن الحيز المتاح لنا يجعلنا نتقصى الغربة ومقترباتها الدلالية وأساليبها التعبيرية في المجموعة، إذ نجد مبثوثاتها في عديد نصوص المجموعة. فمن تجسيداتها الرئيسة، ثنائية الوطن/ المنفى، انهمام الصائغ بهذه الثنائية، يسمح لنا بالقول إن شعرية الغربة لديه هي معادل موضوعي لشعرية الوطن/ المنفى.الصائغ في مجموعته هذه وبعنوانها الغريب و…)كأنه يقول: «كأنه يريد أن يقول إن ما في هذا الكتاب هو إضافة إلى ما سبقه، وسيلي كلام آخر»، فهو شاعر غزير الإنتاج بدءا من مجموعته الأولى «انتظريني تحت نصب الحرية» 1984، وليس انتهاء بـ «أشجار الكلمات» 2015، وهي مختارات شعرية: اختيار وتقديم د.حاتم الصكر ود.حسن ناظم ود.ناظم عودة. الصائغ تقطر كلماته ألما وحرقة حد البكاء على وطنه، وهو جوال في عواصم العالم، وبذلك تحضر في نصوصه مقاربات عديدة لشعرية أمكنة الوطن/ المنافي، مثلا، في نص» باريس» يخلق تعادلات بين أمكنة باريس وأمكنة الوطن، كما يخلق تعادلات بين أسماء أعلام محليين وفرنسيين، فهو في باريس يشرب أنخاب هذه التعادلات، لكي يخلق حالة التوازن الروحي في ذاته إنسانا وشاعرا: «لباريس أن تستدير بكأسي أو تستدير برأسي نخب السنين المضاعة نخبا لجسر قطعناه بين الرصافة والكرخ نخب الرصاص الذي لزنا في السواتر»: ص32 المجموعة. هنا استذكار لأمكنة حميمة، كانت للشاعر فيها ذكريات، شعرنة الاستذكار هنا جاءت لأجل أن يبقي الشاعر صلاته الروحية مع الوطن والناس، لأجل ألا يصبح رقما ضائعا بين حشود المغتربين، وليس أقوى من شعرنة الذكريات لتبقي الإنسان والشاعر متصلا مع ماضيه مثلما متصل مع الحاضر والمستقبل. فتتدفق أنخاب الشاعر على حاضره في الغربة، مستنجدا بأعلام الحاضرة باريس، مستنجدا بكل رموز التواصل الإنساني بين الشرق والغرب، جسور الثقافة والأدب والشعر، طبعا، وهو يتذكر أعلاما فرنسيين وأمكنة باريسية، يدس فيها كل العلامات الفارقة عن حياته في وطنه: «نخبا لرامبو، لسارتر، نخب النواسي، نخب القصيدة، أغنيتي البكر، منفاي والمقصلة نخبا لإيفل، نخب الغريب على السين تأخذه الذكريات – أو الراجمات، إلى آخر الدمع والكأس»: 32-33 الشاعر الجوال، الذي حمل احد دواوينه عنوان (تأبط منفى) هو في هذه المجموعة كذلك. نص آخر يحمل اسم عاصمة أوروبية (مطر بلندن) فيه انثيال شعري باذخ، النص في غالبية مقاطعه يستخدم بناء القصيدة المدورة، وما ذلك إلا لأن الشاعر توحد مع المطر اللندني الغزير فانثالت كلماته أيضا، في إيقاع سريع لا يريد أن يتوقف، كأن الشاعر تعب من التوقفات والفواصل الجملية: «مطر؛ بلندن. يعبر المارون ليلي،غير ملتفتين للجرح الذي خلف الجروح، ينز من خمسين عاما. هل أقول تعبت من نوح الحمام على غصوني جردتها الطائرات من اخضرار قصيدة.»: 22 هنا يكتب الصائغ عن كل شيء، كل صغيرة وكبيرة في تفاصيل يومه، لكنه يعود إلى البؤرة الرئيسة، هو الجوال، لكن الوطن في القلب، فضلا عن حلم العودة من الشتات الذي لا يفارقه أبدا: متى يعود المتعبون من الشتات؟ متى أرى أغصان دجلة يستظل بفيئها العشاق هل يوم يمر بلا رصاص؟.. ….. ….. هل مطر بلندن؟.. هل أسير لآخر المشوار؟… – يا بغداد- أم يوما أعود؟:24 حنين الصائغ للعراق، حنين محتدم بأسباب الهجرة والنفي، موصول بالخراب والحروب والفقر والقمع، فقد خرج من العراق العام 1993، والعراق يرزح تحت حصار مقيت مورس ضد الشعب وليس السلطة الدكتاتورية، يقول الصائغ في حوار، أجراه معه الشاعر السوري هاني نديم (نقلا عن موقع كسرة الالكتروني): « في بلدٍ يطفو على النفط والخيرات والحضارات نسمع صرخة السياب مدوّية لليوم. )ما مر عام والعراق ليس فيه جوع) وكأنني أجيبه: شققني عطشي في بلاد المياه… أكل اتساعِ السهوبِ، ولا حجر أشتهيه كأرضي أكل عثوقِ النخيلِ ولا تمرة في صحونِ الجياع؟»الحرب أو الحروب المتناسلة من الأسباب الرئيسة لخروج الملايين من العراق، وعلى رأسهم كوكبة كبيرة من مبدعيه في شتى المجالات، وبحسب قراءاتنا نجد أن الشاعر الصائغ أحد الشعراء الذين كتبوا بغزارة عن الحرب، بذكرياته العسكرية فيها أثناء الحرب العراقية–الايرانية، بما سببته من خراب في البلاد، وفقدانات كثيرة لاتعد ولاتحصى. لقد حطمت الحرب نفسية الإنسان العراقي، مضى يشعر أنه كائن منذور للحروب وليس شيئا آخر، ففي متون نصوصه مبثوثات جارحة عن الحرب وأوزارها، مثلا نص «حرب 2»، نرى أن عمرنا نتخيله جنازات متتالية، ليس بين جنازة وأخرى كما رشفة قهوة في عزاء أحدهم، ونمضي، حتى يرشف قهوتنا معزون لنا «، كأنما الحياة موت مستمر، وبذلك ينعدم عنها معنى الحياة: بهدوء شربنا قهوتهم وانسللنا من الباب يشيعنا المعزون بنظراتهم المفتوحة على الغياب ليشرب قهوتنا وآخرون كان أعمارنا رشفة بين جنازتين.