بغداد: شبكة اخبار العراق – هل هي مصادفة أن يموت نجيب المانع في الغربة؟ إن في موت نجيب المانع كما تصفه أخته سميرة المانع لنسيم رجوان ويورده الأخير في كتابه (آخر اليهود في بغداد، ذكريات وطن مفقود، ترجمه رمضان مهلهل سدخان) أكثر من مغزى، فهو يموت وحيدا في شقته في لندن، وعلى صدره كتاب لبروست، الذي طالما قرأناه وأحببناه، يقول رجوان، ويتساءل بعدها: ماذا سيقول عنا جيل اليوم، وقد أضعنا عمرنا في كتب وآمال وأفكار لا تمثل لهم شيئا؟ نجيب المانع لقد كان نجيب المانع واحدا من أكثر مثقفي جيله ثقافة واطلاعا، فهو يقرأ بالعربية والإنكليزية والفرنسية. واللغتان الأخيرتان تعلمهما بجهوده الذاتية، كما يذكر في سيرته المنشورة بعد موته (ذكريات عمر أكلته الحروف). لكنه، لشدته في محاسبته نفسه، كان قليل النشر، وكان متأخرا قياسا بمن هم أقل منه أهمية وثقافة، شأنه شأن صديقه نسيم رجوان، مع فارق هو أن الأخير كان مبتلى بالنفي الإجباري عن موطنه بغداد لأنه يهودي. معاداة اليهود ينقل رجوان في كتابه (آخر اليهود في بغداد) أنه كان يراقب الأحداث السياسية التاريخية التي أدت إلى معاداة اليهود في العراق وطردهم، فالمسلمون مالوا إلى الألمان وإلى النازية، وكرهوا البريطانيين المحتلين للعراق في ذلك الوقت الذين وعدوا اليهود بفلسطين. واليهود كانوا كارهين لهتلر بسبب سياسته المعادية لليهود، وهذا الانقسام المبدئي خلق توترا بين المسلمين واليهود، زاده حدة قرار تقسيم فلسطين، الذي ولد سخطا شعبيا، عبر عنه فيما عرف بأحداث الفرهود. إذ نهبت بيوت اليهود وممتلكاتهم، وفقدوا إحساسهم بالأمان الاجتماعي، وصاروا يفكرون بالهجرة إلى اسرائيل، أو يهاجرون. والهجرة جعلت الحكومة تجردهم من الجنسية العراقية. عزلة المثقف عن الحياة يلمح كتاب (آخر اليهود) إلى أسباب تمكن الفكر القومي في تلك الحقبة، ومن بينها الانحياز إلى المانيا ومعاداة بريطانيا، وذلك شيء قوى حظوظ الفكر القومي القائم على الاعتزاز المرضي بالذات وكراهية الآخر المختلف دينيا أو عرقيا، وتولد عن ذلك أقسى أنظمة الحكم في المنطقة وأكثرها دموية. والمؤلف لا يصرح بهذه النتيجة إنما يتركها للقارئ يتوصل إليها من قراءة السيرة التي تنشغل بالذاتي من التجارب والأفكار، ولا تفرض خلاصات حياتها على القارئ. وحتى القول إن سبب أكثر مشكلات العراق ترجع إلى أن المثقف محبوس في أفكاره الشخصية وقناعاته الفردية، وإلى عزلته عن الحياة إنما هو فرضية تؤكدها قراءة خط سير الكتاب السردي، فهو يختم بالإشارة إلى مثقفين آخرين من بينهم نجيب المانع وعدنان رؤوف وبلند الحيدري، وانتهائهم إلى المنفى شأنهم شأن نسيم رجوان، واجتماعهم العاطفي أو الفعلي في نهاية المطاف على أرض المنفى في قصص تجتمع خيوطها على يد رجوان. إذ يموت المانع وحيدا في لندن، ويموت رؤوف غريبا في أميركا، ليكون الكتاب سيرة للمثقف المحبوس، على حد وصف المؤلف نفسه، داخل ذاته وأفكاره، المنفي عن الواقع، وعن الوطن، الذي تجتمع قصته عند غيره لا عنده، فسيرة المانع تكتمل عند رجوان، لا في كتابه (ذكريات عمر أكلته الحروف) الذي جمع بعد موته، وخلا من الإشارة إلى عزلته الأخيرة. تنشيط الذاكرة تظل الكتب مثل كتاب (آخر اليهود) مهمة لنا نحن القراء، لأنها تنشط ذاكرة غمرتها قسوة نسيان متعمد، أرخت سدوله السياسة، وكرس هيمنته التطرف، ذاكرة نحتاج إليها لإجراء المسامحة الضرورية مع أنفسنا ومع الآخرين المختلفين الذين يعيشون معنا في الوطن ذاته، لنجتاز هذه المرحلة. فمن المستبعد أن ترجع الكتب، كهذا الكتاب، اليهود إلى العراق، لكن ليس من المستبعد أن تجعلنا نفكر كثيرا فيما يجري الآن من صراع مذهبي لا تقل آثاره، في مدن أو جماعات، بشاعة عن ذلك الذي وقع لليهود العراقيين قبل عقود. تفاصيل صغيرة الكتاب مهم لأسباب كثيرة غير هذا السبب الأخير الذي ذكرته قبل قليل، ومن بينها التفاصيل الصغيرة التي تتصل بحياة اليهود وعلاقتهم بالمسلمين وبالمكان وعاداتهم وتقاليدهم، ومن بينها أيضا لغة الترجمة الواضحة المتماسكة في الغالب، وإن كنت اقترح على الدكتور رمضان مهلهل سدخان، وغيره من مترجمينا، إعادة العمل بتقليد المراجعة الذي كان يلحق بالترجمة، وكان شائعا، لما له من أهمية للكتاب المترجم، فهو يقلل من هنات الكتاب الأسلوبية واللغوية، وقد يخلصه من بعض الزيادات اللفظية المرهقة، ويخرجه في صورة أقرب إلى التمام الذي نرجوه لكتب بأهمية هذا الكتاب.