من الصيغ المستخدمة في الأوساط الديبلوماسية وأجهزة الإعلام الدولية نسبةُ أي نشاط أو تصريح لرئيس جمهورية أو رئيس وزراء أو رئيس برلمان إلى الدولة التي ينتمي إليها. فيقال، (أمريكا تقرر)، و(بريطانيا تعلن)، و(فرنسا تدعو) حين يقرر الرئيس أو يعلن الوزير أو يدعو السفير، وذلك في الدول التي تحترم نفسها، والتي التي يصح أن يُعتبر كبار المسؤولين فيها ممثلين حقيقيين لحكوماتها وشعوبها. والسبب بسيط هو أن رؤساءها ووزراءها وسفراءها لم يتبوأوا مراكزهم بالمحاصصة، ولم يشتروها بالمال المختلس من خزينة الدولة، أو لم يكتسبوها بقوة سلاح مليشياتهم، أو بجيوش دولة أجنبية غازية سهلوا لها غوزها واحتلالها لبلادهم، أو بأموال مخابرات أجنبية اشترت ضمائرهم ليكونوا لها جواسيس ووكلاء مؤتمنين على مخططاتها.
وعلى هذا يصبح من غير المنطقي ولا من العدل ولا الإنصاف أن نقول إن (العراق يعلن)، و(العراق يقبل)، و(العراق يرفض)، حين يكون رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو رئيس البرلمان أو الوزير أو النائب هو الذي يعلن، وهو الذي يقبل، وهو الذي يرفض، وليس العراق. والقاصي والداني يعرفان كيف جلس الرئيس على كرسي الرئاسة، ومن سلط الوزير والنائب على البلاد والعباد، بغير الإرادة الحرة والحقيقية لعشرات الملايين من المواطنين المستضعفين أو المضللين أو المخدرين.
وإذا نظرنا إلى ما أعلنته المفوضية العامة العراقية للانتخابات، قبل أيام، بخصوص الذين سجلوا أسماءهم للتصويت في الانتخابات المقبلة فسوف نجد أنهم ثمانية ملايين فقط، من اثنين وثلاثين مليونا، أي ربع سكان العراق.
وإذا سارت الانتخابات المقبلة كسابقتها، ولاشك في أنها ستسير كما سارت من قبل، فلن يتمكن ثلث هذه الملايين الثمانية من الوصول إلى صناديق الاقتراع، بفعل حواجز مصطنعة، ومتفجرات، ومفخخات، أو بأية عوائق أخرى اعتاد العراقيون على مصادفتها أيام التصويت. وبهذا لن يصل عدد الواصلين إلى الصناديق أكثر من خمسة ملايين ومئة ألف. ولنقل إن نصف هؤلاء سيكونون مَسوقين بفتوى رجل دين، أو قرار شيخ، أو رئيس، أو وزير، أو نائب، يمسك عليهم رزقهم، أو يقدرعلى أذاهم وأذى عوائلهم. وهذا يعني أن عدد المقترعين النهائي لن يجاوز مليونين وستمئة ألف، فقط لا غير. بعبارة أوضح. مليونان وستمئة ألف ناخب أغلبهم لا يعون ولا يعقلون يصنعون مصير شعب بأكمله لا حول له ولا قوة.
والعراقيون يحفظون آلاف القصص والحكايات المضحكة المبكية عن حالات قتل، وخطف، وقطع طرق، وتزوير، أوشراء بمال أو بقطع أرضٍ وهمية فضائية أعطيت لناخبين.
ولو عدنا إلى عدد الأصوات التي دخل بها نواب عديدون إلى قبة البرلمان لوجدنا العجائب. فأكثر من نائب نراه اليوم يصرخ على شاشات التلفزيون مناديا بالإصلاح ومحاربة الفساد لم
يحصل في الانتخابات السابقة إلا على ألف أو ألفي صوت فقط من أصوات اثنين وثلاثين مليونا من العراقيين، فمد له (عمه) أو (صهره) أو شريكه في الاختلاس يد العون، وأهداه ما يحتاجه من أصوات تُدخله قبة البرلمان لينوب عن العراقيين، كلهم، في تجليس رئيس جمهورية، وتتويج رئيس وزراء ووزراء وسفراء وقادة أمن واقتصاد وثقافة وزراعة وماء وكهرباء. وليصبح، في سنة أو سنتين، من أصحاب الملايين القادرين على شراء مقعده في البرلمان في أية انتخابات مقبلة.
ولا يقف المسلسل عند هذا وحسب. بل صار من حق حكومةٍ من هذا النوع، وهيئةٍ برلمانية على هذه الشاكلة، أن تشكر جيوش دولة أجنبية على احتلال وطنها واستعباد شعبها، باسم الأخوة والصداقة والسيادة، حتى حين تعلن تلك الدولة، دون خوف ولا حياء، أن الوطن العراقي عاد إلى ممتلكاتها (المغتصبة)، وأصبحت، هي وحدها، الحاكمة التي تأمر فيه وتطاع، ولها وحدها أن تعين رؤساءه ووزراءه وسفراءه، وأن تقرر، هي وحدها أيضا، مَن عدو حكومته (الوطنية) ومَن عدوها، وتغضب وتثور وتأمر وكلاءها وعبيدها بأن يهبوا غاضبين مهددين، ولاطمين خدودهم على السيادة فقط لأن دولة أخرى معتدية وغازية تجرأت وأقامت لها قاعدة عسكرية صغيرة في مدينة واحدة من هذا الوطن المباح.
والسجال الدائر حاليا بين إيران خامنئي وفريقها العراقي من جهة، وبين تركيا أردوغان وفريقها العراقي العربي الكوردي، حول السيادة (المغشوشة) يذكرنا بسلسلة الحروب التاريخية المدمرة المتعاقبة بينهما على أرضنا، وفي شوارع مدننا وقرانا، وحول مدارسنا ومستشفياتنا، والتي دفع كبارنا وصغارنا أثمانها الباهضة.
ففي كل مرة كان الصفويون يتمكنون من بسط هيمنتهم على بلادنا كان العثمانيون يسارعون فيحتلوننا، ويطردونهم خارج حدودنا، ويلاحقونهم، ويقاتلونهم في بلادهم ذاتها.
وفي كل مرة أيضا كان العثمانيون ينتصرون على الصفويين في بلادنا كانت الدائرة تدور عليهم، وينتقم الصفويون منهم ومنا دون رحمة.
والظاهر أن التاريخ اليوم يعيد نفسه في حلقة جديدة من تلك الحروب الخاسرة الغبية التي لم تعد، ولن تعود علينا وعليهم، في النهاية، سوى بالدمار والخراب.
وحكومة حزب الدعوة وشركائه أعضاء الائتلاف (الوطني) تقول إن القوات الإيرانية موجودة بطلب من الحكومة. ورئاسة إقليم كردستان العراق تقول إن القوات التركية موجودة بموافقةٍ حكومية أيضا. وفي الحالين لا يمكن اعتبار هذه ولا تلك إلا خيانة وعمالة وسمسرة على حساب الوطن والمواطنين.
فهل يحق لأحد بعد ذلك أن يقول إن (العراق يرفض) و(العراق يطلب) حين يكون فؤاد معصوم أو حيدر العبادي هو الذي يرفض ويطلب، برغم أنف الإثنين والثلاثين من الملايين العراقية البائسة المغلوبة على أمرها؟.
أليست هذه حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة وعلي بابا والأربعين حرامي؟.