يحق للشمس أن تتهادى بمشيتها بغنج ودلال نحو الغروب، فهي أجمل ما خلق الله، فكلما اقتربت من الليل ، يزداد قرص وجهها حمرة من خجل ثقيل ، هي تعرف أن سكان الأرض واشون وحاسدون ، فهم يعلمون جميعاً بعلاقتها العاطفية مع القمر ، وأنه ينتظرها النهار بطوله بصبر ، ليلفها بعباءته السوداء ليلاً، فتسود الظلمة الأرض، هو هاجس يرافقني منذ الطفولة، أن القمر عاشق للشمس ، ينام معها بفراش واحد حتى الصباح ، و الليل هو غطاؤهما ، عباءةً يلف بها زوجته الشمس ، أولادهما النجوم ، مستيقظة طوال الليل، تحرسهما بالدور، ومنتصف الشهر، يأتي دور القمر فيخرج بدراً، يحرس السماء ويطرد الحساد والشياطين والعذال والمشاغبين والشمّات ، ثلاثة أيام أو أربعة فقط، وبعدها يصير هلالاً ليراقب من بعيد ، ومن وراء عباءته، فكنت أحسده كثيراً لدلال الشمس له، فهي تحرس الارض والسماء طوال النهار ولا تغيب يوماً، وتدلل القمر في الليل ….و كنت أقول لأمي حيال ذلك: -” هل سأتزوّج امرأة بجمال الشمس ، حين أكبر؟….. وهل ستدللني كمل تدلل الشمس القمر…..!؟” تضحك أمي من سؤالي هذا كثيراً، و أفرح كثيرا ، حينما أراها تضحك، وتربت بيديها الحانيتين على رأسي وتقول بحنان ورقة : -” نعم يا ولدي….! ….سيحدث هذا يوماً ، حين تكبر وتصير قمراً…..!!” كنت أنام مباشرةً ، بعد سماع هذا الكلام وكأنه مخدرٌ…… أحبها كثيراً ، وهام بها كما أحب القمر الشمس ، وتزوجا تحت ظروف يتسيّدها الخوف والموت ، صعب جداً هو زمن الثمانينات، كان الوطن يتلظّى بين نيران العنجهية والظلم، حرب ضروس، أكلت اليابس والأخضر، أنجبت له ثلاثة أولاد، وفارقها حاملاً في الرابع ، خروج الجيش العراقي من الكويت على أيدي جيوش الحلفاء، بصمتها أوضاع سوداوية،التهمت ربع الشعب العراقي، أعقبتها الانتفاضة الشعبانية، وحصار مقيت، لا تزال آثاره تنخر بأجساد أبناء الشعب العراقي من أمراض غريبة ومستعصية، أكل من أجراف دجلتنا وفراتنا الكثير، طلعات الحلفاء الجوية المكثفة، أخذها الأمريكان على عاتقهم، عهدة ومقاولة، لتهديم الوطن بحجة طرد حاكمه الظالم حينذاك، والذي هو أهم وكيل من وكلائهم، ومن صنيعتهم المعتبرة، مبرر وعكاز تتخذه الاستراتيجية الأمريكية في كل بلد يعصي سياستها ، و تساوت البنية التحتية للوطن مع الأرض، هنا موقع قصتي، كما رواها بعجلة واقتضاب ، الصديق المجاهد السيد ناصر اليعقوبي … انفلتت من طيار أمريكي بالخطأ قذيفة، وتلك جملة معروفة لكل من تعرض لاعتداء أمريكي، هم يقتلون الأبرياء قصداً متى أرادوا، ولم يمنعهم أحد، ويحشرون تلك الجملة في بداية الخبر في الإعلام ، وينتهي الأمر، ولا يعقب أحد، تلك الجملة بالذات أخذت كفايتها منا، ومن الشهرة في كل أنحاء العالم، حتى صارت بطلاً هوليودياً في الاختراق والاعتداء الوقح، الأمم المتحدة التي أسست لتمنع الاعتداء، وتنشر السلم والعدل بين دول العالم، تعرف تلك الجملة جيداً، وتغلق أذنيها وعينيها عنها عمداً، وربما خوفاً أن تشملها تلك الجملة يوماً ما بشكل عملي….!… انفجار تلك القذيفة سبب تهديم بيت الرجل وإصابة زوجته بشظية في بطنها، وفي الحال أخذت المرأة بطائرة أمريكية إلى أحد مستشفياتها، تصور المهزلة من حنان الأمريكان الفائض عن المعقول، هم القاتل، وهم من يأخذون بدم المقتول، هم من يجرح وهم أول من يداوي، المشكلة أنهم يتصورون أن تلك استراتيجية سياسية ذكية، لا يدركها العالم، والأغبى من ذلك أن العار من بعض حكام العرب، أصبحوا خواتماً بيد المخابرات الأمريكية والإسرائيلية يسهلون عليهم كل ما يصعب، و يفتحون الطرق أمامهم بسجاجيد حمراء …. قذيفة واحدة بحقد امريكي وحماية “جملة الخطأ الأمريكية الشهيرة ” ، شردت عائلة بالكامل، وفرقت بين الشمس والقمر والنجوم، اختفى الرجل و أولاده مع الهاربين إلى إيران، خوفاً من الموت المزدوج، موت القصف المستمر، والخوف من ملاحقة رجال أمن الحكومة، فكل هارب من الوطن، يعد خائناً ويعدم في الحال رمياً بالرصاص، أما الزوجة فاستقرت تحت الحنا ن الأمريكي في أحد مستشفياتهم العامرة بضحاياهم، لا تعلم شيئاً عمّا حلّ بعائلتها… ولدت المرأة طفلاً ميتاً بعملية قيصيرية ، قتلته شظية أصابتها من القصف، بقيت المرأة في المستشفى الأمريكي، ثلاثة أشهر كاملة، وهي تندب أولادها وكأنها تجلس فوق جمر، انزعج من بكائها وعويلها المستمر من بالمستشفى، فترجوا المسؤولين أن يعيدوها إلى وطنها، وأعيدت المرأة إلى الوطن مع بعض المرضى الآخرين، الذين عالجهم الحنان الأمريكي، عاشت المرأة في بيت أختها سنة كاملة تسأل هذا وذاك علها تجد خبراً عن مصير زوجها وأولادها ، تبحث عن بقية عائلتها بسرية تامة، فالحكومة تعتبرها من الخونة، لو علمت أنها عولجت في مستشفى أمريكي، وأن بقية عائلتها هاربة من الوطن، سيكون بالتأكيد مصيرها الإعدام، مثل كل من خرج من العراق، بعد الانتفاضة الشعبانية، عام 91…. علمت المرأة بعد سنتين من أهل الخير، أن أولادها وزوجها في إيران بأمان، و بدأ عندها شوط مشكلة جديدة، كيف ستصل إليهم وهي مهددة بالخيانة إن اكتشف أمرها ؟ أشار عليها أحد أقاربها أن تذهب للسيد ناصر اليعقوبي (راوي تلك القصة) وتستشيره بالأمر، ربما سيجد لها حلاً أو طريقة للهروب إلى إيران و الالتحاق بزوجها وأولادها هناك، فهي لا تتحمل فراقهم، من جهة، ومن جهة أخرى، تتخلص من الملاحقة من قبل أمن الحكومة، فقام المجاهد السيد ناصر اليعقوبي بالاتصال بأشخاص مهربين من محافظة ميسان يعرفهم، فطلبوا منه مبلغاً كبيراً من المال، لا يستطيع دفعه، فاضطر الرجل أن بجمع بعض المال، وبسرية تامة من أهل الخير في المدينة، تابع الرجل، بشكل سري جدا زيارة جميع أبناء الناصرية الخيّرين لجمع هذا المبلغ، حتى نجح أخيراً بترحيلها ….واجتمع شمل العائلة، بعد فراق دام حوالي حوالي سنتين ونصف….. وبعد انجلاء الغمة وإرخاء الليل سدوله ، عاد القمر يظهر في الليل بلا خوف والشمس تتسيّد النهار وتتهادى بمشيتها نحو الغروب بغنج ودلال ودون خجل، والقمر ينتظرها بالافق دون خوف او حرج ، وعادت تلك العائلة إلى الوطن وهي تسكن نفس المحلة التي أسكنها، وقد كبر نجومها، وتخرجوا من الجامعات ومسك كل مكانه الطبيعي، صار كل شيء ذكريات من ماضٍ أسود نسيناه تقريبا، بعد أن طمسنا بحاضر أشدّ منه سواداً ….عسانا أن لا نحنّ لذاك الماضي المقيت بفعل حاضرنا القبيح…..