الفن القصصي هو فن قولي ، ونشاط انساني يلبي احساسات الفنان في التعبير عن حاجاته النفسية والاجتماعية والجمالية ، كما ان هذا الفن المتمثل في جنس القصة القصيرة له عتباته ، بدءا من العنوان والتمهيد والهيكل وبناء الحدث ، ومحاولة ايجاد دالة التشويق والاثارة ، وحالة التوقع التي تجعل من القارئ، يشارك الكاتب في الوصول الى نهاية الحدث .. يقول هدسن « إن الفن هو التكامل بين العاطفة التي يحسها الفنان وبين الصورة التي تعبر عن هذه العاطفة}.من هنا قد تكون قصة (مسبحة ابي) للقاص عبدالامير المجر ارتكزت على ثيمة الصدق والتمسك به ، وكذا على نية الاحتفاظ والوفاء بمضمون التسبيح ، رغم ان القاص سرد الحكاية بهدوء مشوب بانفعال البحث ، وحاول الابتعاد عن الافصاح، لغرض رفع كمية التشويق وحالة التوقع كما اعتقد ، بل واخذ بعوالم المسبحة الى افاق غير متوقعة من ناحية التلقي ، وابعد عنها كل مسحة دينية ، كون المسبحة كما هو متعارف عليه ارتبطت بالتسبيح والتنزيه للخالق ، ونلاحظ قصدية الكاتب في التمويه وتحميل المسبحة رمزية مثقلة باشياء تريد ان تفصح ، الا انه كل مرة يجد نفسه امام صدق هذه المسبحة وتمسك الوالد بها الى حد ادماء انامله ، وهنا النص يوحي باسئلة عديدة .. هل تسبيح ابيه كان دينيا توحيديا ، وهذا المنحى ابعده الكاتب ، ام انه كان عشقا برائحة العطر الذي تبثه ، كلما حُركت خرزاتها والعطر له رمزيته الخاصة ، كل الظن كانت هناك وجهة قصدية ، عمد اليها الكاتب المجر ، وختم بها القصة وكانت بمثابة بيت القصيد .. (كان ابي ممددا على الاريكة، وحده، وقد تناثرت حبات مسبحته في المكان، واخذت تحاصر جلسته كائنات صغيرة على شكل عقارب وأفاع لاتكاد ترى، راحت تعض حبات المسبحة المتناثرة على الارض، وتمتص بعضها في مشهد مروع، فيما كان ابي المستلقي وحده على الاريكة ، غائبا تماما وسط احلام غريبة غزت راسه، وجعلته يبدو كالميت في المكان الذي راحت تعبث به ريح الاعصار المغبرة، وتهز المدينة التي غامت فيها وجوه الناس المذهولة من هول الاعصار، وقد نسوا حكاية مسبحة ابي بعد ان توزعت الشوارع وجوه بشر بين شكل عقارب كبيرة وافاع يمسك كل واحد منهم بمسبحة من لون مختلف يداعبونها باصابع كالمخالب، ويوزعون بين المارة ابتسامات
صفراء.) ، وبالتالي كسر حالة التوقع لدى المتلقي ، وافرغ المسبحة كما هي من محتواها ، وجعل دالتها بيد الوالد ، الذي صنع منها قضية ، استوعبت رؤية الكاتب المجر في معالجة الموضوع برمزية عالية التكثيف والتبئير ، اي بؤرة الخرزات وما تحمله من انتظامها في خيط واحد وما تحمله في حالة تشظيها ، مع شبه موت الاب ، تنتثر تلك الخرزات وتتشظى في صور مرعبة تحيط المكان ، ومع نشوب الاعصار على المدينة ، كحدث اضافي ، يتوزع بين المدينة (وجوه بشر على شكل عقارب كبيرة وافاع يمسك كل واحد منهم بمسبحة من لون مختلف يداعبونها باصابع كالمخالب، ويوزعون بين المارة ابتسامات صفراء.) ، فـ(في ضوء تطور الفكر الانساني واتساع افاق المعرفة في البحث عن ماهية الذات والوجود وسبر اغوارها في مدى ارتباطها باحداث عصرها المتحرك وظواهر واقعها المتجدد ، برزت مفهومات في الثقافة الادبية تحاول الربط بين التجربة الادبية واثر المجتمع والاحداث فيها . فالثقافة الادبية ، على سبيل المثال ، هي جزء فعال من ثقافة بيئة انسانية او مجتمع بشري ، وهي في الواقع حصيلة اجتماعية للافكار الانسانية والحرف والمعتقدات والعادات ، مهما كانت تلك الثقافة بدائية او معقدة حضارية جامدة او متطورة .
فالتراث الثقافي له القدرة على الحركة والتطور والانتقال من جيل الى جيل . ولابد في مثل هذه الحالة من وجود بعض المناهج والحركة في كل ثقافة .. لاننسى ان تطور المعرفة والقيم الاخلاقية ، هو جزء لايتجزأ من مفهوم الثقافة . فالخصائص الثابتة لأية ثقافة تنعكس عادة على التجربة الادبية التي تولد بين احضان الذات والروح الجماعية. لذا فان نسق العمل الادبي الذي هو في الواقع نسيج التجربة الادبية من الناحية الفنية ، يمثل الادب في مفهوم المعرفة الانسانية وفي حكم القيمة لأنه ، أي النسيج الادبي ، جزء من خبرة القاريء)2 ، فكل الظن ان التجربة الشخصية للكاتب المجر صنعت من فكرة بسيطة معنى كبيرا ، اعطى لقصته قيمة انسانية ، هيأت المشاركة بينه وبين المتلقي وجعلت الاخير ، يمنحها عدة تأويلات كلها تصب في مجرى التناغم الانساني من رفض وقبول ..