جملة العراق الشعرية.. تعريف أوّلي للمصادر الثقافية
آخر تحديث:
ميثم الحربي
مثل كثير من الحقول الإنسانية، اخترقت الأيديولوجيات، والنظريات الجمالية، والمحكّات الفكرية منظومة التأويل الجمالية الكبرى، وأثر ذلك في جملة العراق الأدبية عامة، والجملة النثرية على وجه الخصوص. وقد أسهمت تلك الموجات الاختراقية في صناعة البنية التحتية التي ستتحرك عليها التمثلات النثرية العراقية، عبر منجزها الواسع، نصّا، ونقدا، وتعليقات موازية وهي تتقصى التحولات المتلاحقة للأشكال، والمضامين، والمشاريع الرؤيوية عندما عكس النثراء همومهم، ونظرتهم للحياة في كتابهم النثري الممتد عبر ألوان من القطائع السياسية، والثقافية، والاجتماعية الحادة والمتسارعة. فبعد أن أتم النثر تشربه المحلي داخل مصنعه الروحي الذي يصدر عنه وينتمي له، انفتح عبر القراءة وفعل المثاقفة لتأمل ستراتيجيات الكتابة لدى الثقافات المحمولة على ظهر لغات مغايرة. 2 ولم يتم مشروع التخصيب النثري إلا عبر ما كوّنته (جهود الترجمة) من جسور. وأول ما كان يُعملُ تأثيره جاء عن طريق الترجمة عن اللغة الانكليزية، ولا سيما أننا كنا نعيش تضاعيف ما كان يُعرف بـ (العراق الانكَليزي) في عشرينيات القرن الماضي. وقد كانت عيون الثقافة العراقية مفتوحة على هذا الأفق حيث تمت ترجمة جهود كثير من الشعراء، والنثراء، والنقاد البريطانيين ودخلت تأملات كثير منهم إلى صفوف الدراسة، في الإعدادية، والجامعات، ومعاهد المعلمين العالية. ونتيجة لذلك قبست الجملة النثرية سيماء تحوّلها على مستوى الشكل، والمضمون، وتشكّل الرؤى، ثم مزجت ذلك مع ما كان يعكسه التراب الوطني من حركة السياسة، والثقافة الموّارة بالتداخلات والتعقيد والاشتباك. واستنادا إلى ذلك خرجت الفكرة النثرية من هذا التأثير على شكل جملة تتميز بالأناقة، والانضباط، والتّوثّب. 3 وتستمر عملية الترجمة في مشروعها المُخصّب للفضاء الجمالي العراقي من خلال دخول (الثقافة الاشتراكية) على الخط. وتجلت تمثلات هذا الخط في ترجمة الأدب الروسي شعرا ورواية، وأدبيات سياسية وشيئا فشيئا باتت الآفاق النثرية، والشعرية تتحدد أكثر وبدأت تظهر للكتاب اتجاهات في الكتابة وتداخلت الأنماط الكتابية بفعل هذا التأثيرات فمنهم من بات يفضل معمار الكتابة الانكَليزية، ومنهم من راقت له الاساليب والابتكارات البلاغية، واللغوية، والسردية لدى النثراء الروس. والمهم أن نذكر أن ذلك لم يكن تقليدا على طريقة سقوط الحافر على الحافر أو الحصان على الحصان، وإنما يتضح التأثير لنا من حيث إن النصّ الذي نقرؤه يكون كاشفا أمينا للمصادر الثقافية المترجمة التي تغذي مشغل الجملة النثرية. 4 إلى ذلك تتعمق أبرز التأثيرات القادمة عبر الترجمات، وهذه المرة جاءت عن طريق الجهود الترجمية العراقية التي أخذت على عاتقها ترجمة المشغل الشعري الأميركي على يد شعراء مرة، ومترجمين متخصصين مرة أخرى، ومضافات ترجمية عربية تهتم بالأدب الأميركي درسا وتحليلا، ومتابعة. وبالطبع جلب ذلك آثاره معه إلى الحوض النثري الذي بدأ يتسع بالتخصيب وتتالي الإصدارات إن كانت مجلات ودوريات أدبية أو كتبا شعرية. 5 وبموازاة الترجمات التي جعلتنا نطل على الأفق الأميركي، ظهرت ترجمات عكست اتجاهات الفكر والكتابة الفرنسية. فتمت ترجمة أعمال الأدباء الفرنسيين، ونظريات التأويل الجمالية المرافقة لحركتها. حتى صنع ذلك تأثيرا واضحا على شكل الكتابة النثرية فباتت الجملة النثرية العراقية تميل إلى أن تكون على شاكلة (السطر الفرنسي الطويل) كما عد كتاب (سوزان برنار) الشهير (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا) أشبه بـ (منفيستو نقدي) يهتم به الكتاب بوصفه دليلا سياحيا للبدء باكتشاف العوالم النثرية.إنّ الترجمات عن كل من (الانكَليزية، والروسية، والفرنسية) هي من أبرز ما كان من ترجمات كان لها تأثير كبير ولا يزال على طاولة الكتابة النثرية العراقية. ولم يتوقف أمر استثمار الثقافات الأُخَر إلى هذا الحد. فقد اتسع الأمر نحو الانفتاح على فضاءات كتابية عديدة جاءت عبر الترجمات اللاحقة عن الألمانية، والاسبانية، والفارسية وغير ذلك من اللغات لكن بتأثير أقل. 6 ومن الجدير بالذكر أنّ عمّال الكتابة، وأهل الكد الأصيل في الدرس النثري العراقي تميزوا أساسا بامتلاكهم ثقافة اللغات المختلفة، ويشهد جهدهم في الكتابة والتأليف والترجمة لهم بذلك. وإنّ إضاءة الجملة الأدبية العراقية العامة، والنثرية بشكل خاص في ضوء تلك التأثيرات ينفعنا في درس التقييم والمراجعة من أجل فهم نظام العلامة النثرية الكبير كيف يعمل؟ وما هي مصادره الوافدة؟ وفي أي طريقة أنتجت عملية التخصيب المكتبة النثرية.وبهذه الطريقة نفهم أيضا حضور تأثير كل من (إليوت وديلان توماس، وبوشكين أو يسنين، وبودلير، أو إيف بونفوا، ورامبو، وريلكه، وأودن أو غينسبيرغ… إلخ) وهم ضيوف إبداعيون قدمتهم لنا الترجمات وصنعت دوائر حضورهم في خارطة الشعر العراقي. وبلا شك إن القائمة تطول لكن تلك الأسماء تمثل دلالات على ما قدمناه وقد أسهمت في رفد تحولات الكتابة الشعرية في العراق التي خصبت مشغلها مع أعمال أولئك الشعراء وغيرهم.