ليس نوري المالكي وحده الذي وجد نفسه رئيسا للوزراء بالمصادفة، بل لم يتم اختيار رئيس وزراء عراقي واحد، من 2003 وحتى اليوم، إلا بالمصادفة، ثم صدق بأنه زعيم حقيقي وقائد وإمام، ومن سوء حظ الوطن أن يقوده غيرُه إلى بر الأمان.
فالدكتور أياد علاوي جاء من مجلس الحكم الذي قال عنه بريمر نفسُه إن أعضاءه (منافقون وانتهازيون وجشعون لا يشبعون).
فبعد جدل طويل وعقيم بين أحزاب إيران والجبهة الكردستانية والأمريكان والبريطانيين والأمم المتحدة حول من يمكن أن يكون رئيسا انتقاليا للوزراء، أشهرا معدودة، ريثما تُجرى الانتخابات 2005، لم يجدوا غير أياد علاوي حلا وسطا، باعتبار أن فيه ما يرضي القادة الكورد، لصداقته الطويلة معهم، (رغم خلفيته البعثية)، وفيه ما يريح إيران بشيعيته، وما يطمئن قادة الائتلاف الوطني لأنهم خبروه وجربوه على امتداد تحالفه معهم، من أيام مؤتمر فينا الذي اقتسم معهم زعامته، وعاشرهم بالتي هي أحسن، وحتى اليوم.
وحين فاز التحالف الوطني (الشيعي) في تلك الانتخابات، بالـ (أغلبية)، وحار قادتُه في اختيار رئيس وزراء من بينهم، لم يجدوا سوى اثنين، مرشح المجلس الأعلى عادل عبد المهدي، ومرشح حزب الدعوة إبراهيم الجعفري، ثم فاز الأخير بالمصادفة، وبفارق صوت واحد هو صوت التيار الصدري الذي قرر دعم مرشح حزب الدعوة نكاية بالمجلس الأعلى، لخلافات طارئة بينهما، آنذاك.
وحين اتفقت الإرادة الأمريكية والإيرانية والعراقية العربية الشيعية والكوردية على فشل الجعفري وهزال قيادته وضعفه، سأل الرئيس بوش سفيرَه في العراق آنذاك زلماي خليل زاد: هل يمكنك التخلص من الجعفري؟ فأجابه “نعم”.
ثم بذل السفير جهوده لإقناع الجعفري بالتنحي، فوافق، لكنه اشترط أن يكون خليفته من حزب الدعوة أيضا.
وهنا بدأت حيرة زلماي خليل زاده. فقد أكتشف أن أبرز المرشحين، علي الأديب، القيادي في حزب الدعوة، غير مناسب، لأن والده إيراني، وكان كثيرون من العراقيين يتهمون الأمريكيين بالتآمر مع الإيرانيين.
فتساءل مع نفسه، “أيعقل ألا نجد من بين 30 مليون عراقي مرشحا لرئاسة الحكومة سوى واحد لا يستطيع اتخاذ قرار، وآخر إيراني؟ أليس هناك غيرُهما؟”
فرد عليه ضابط ارتباط في وكالة الاستخبارات الأميركية كان حاضرا، “لدي مرشح لك، اسمه نوري المالكي”.
وعلى طاولة عشاء في السفارة الأميركية سأل خليل زاده ضيفه المالكي، هل تريد أن تصبح رئيس وزراء العراق؟ فقفز المالكي من مقعده، مندهشا، صائحا، أنا؟ هل أنت جاد؟
وبعد دورتين مظلمتين مدمرتين لم يترك فيهما نوري المالكي لأحد في أمريكا وإيران، ولا داخل حزب الدعوة نفسه، وفي التحالف الشيعي الذي نصبه رئيسا للوزراء، خيارا سوى ترحيله، والمجيء ببديل غير مستهلك سياسيا، ولم يُعرف عنه اختلاس وقتل وتطرف طائفي، فكان ذلك هو حيدر العبادي. وهنا أيضا صنعت المصادفة رئيس الوزراء.
هذا ما أثبته التاريخ، من طقطق لسلام عليكم. ولكنْ برغم هذه الفضائح المعلنة ما زال كبار الشركاء المتحاصصين في السلطة، وخاصة منهم الحكامَ الإسلاميين الشيعة وكثيرين من أشياعهم والملتصقين بهم المتنعمين بخيراتهم، يكابرون ويباهون بأنهم يحكمون بإرادة الشعب، وبأنهم جاؤوا على ظهر الديمقراطية، وبأن شرعيتهم منتزعة من صناديق الاقتراع، وحدها، ولا يستحون.
ولكن أصغر مواطن عراقي يعرف أنهم (بضائعُ استعمالية مؤقتة لم تنتهِ صلاحيتها بعدُ، ولم يحن وقت رميها أو إهمالها)، على حد قول بول بريمر لخليفته السفير الأمريكي في العراق، نعروبونتي.
والغرض من هذه المقالة ليس الدخول في جدل حول صدقهم أو كذبهم في ارتداء عباءة الديمقراطية. فهذه مسألة غير محتاجة لنقاش. فأغلبهم أصحاب مليشيات طائفية عنصرية مسلحة مارسوا بها القتل والاغتيال والاختلاس، وحاربوا بإرهابها معارضيهم ومنافسيهم في السياسة أو في المال.
وبعد كل الذي جرى وصار ما زال نوري المالكي يحلم بالعودة إلى الرئاسة من جديد. فأخباره تقول إنه متحالف مع عمار الحكيم على تشكيل حكومة أغلبية، فيما بعد الانتخابات الجديدة، يطردان منها شركاءهما الصدريين والكورد والسنة والمسيحيين والمستقلين، وينفردان بالحكم، وكأن الزمن يمكن أن يعود إلى عام 2003، أو 2005 أو 2010، وكأن مفوضية الانتخابات ستبقى هي نفسَها التي يأمرونها وتطيع، وكأن الشعب العراقي سيبقى هو نفسه الشعبَ المضلل الجاهل المخدوع المخدر بشعارات ثارات الحسين من أحفاد يزيد، وكأن في إمكانهما إسكاتَ الملايين الغاضبة، وأغلبُها شيعية وطنية واعية، لا داعشية ولا بعثية ولا وهابية ولا تكفيرية، وكأن ساحة التحرير التي تغص كل يوم جمعة بالمنتفضين ليس فيها عراقيون، بل هتافون مستوردون من جيبوتي والصومال.
ويفسر الحكيم والمالكي فكرة حكومة الأغلبية بالقول “إن فكرة حكومة (المحاصصة) التي اشترك فيها الجميع كانت ضرورية لمرحلةٍ ما من مراحل العراق الجديد”، ولكن ” من يمتلك أكثر من النصف أغلبية، والمتبقون معارضة”.
ولا اعتراض على فكرة حكومة الأغلبية لو كانت وليدة انتخابات سليمة، وبين أحزاب حقيقية نزيهة تأخذ شرعيتها من جماهيرها ببرامجها وحدها، لا بسلاح مليشياتها، وبتزوير الانتخابات والشهادات، ولا بشعارات وفتاوى دينية طائفية، ولا يحتكر قرارها سياسيون جربهم العراقيون أعواما طويلة، وكشفوا نفاقهم وفسادهم، وذاقوا من ديمقراطيتهم الويل والثبور
وإنه لأمرٌ محزنٌ جدا أن يُثبت المالكي والحكيم أنهما حَكَما وطنا يزخر بالعلماء والخبراء والمبدعين وهما أجهل خلق الله، وأكثرُهم ضلالا وغفلة، حين لا يوقنان بأن الدنيا تغيرت، وتتغير من حولهما وهما لا يشعران.
فالوطن الذي اغتصبوه في غفلة لن يكون هو نفسَه ما بعد تحرير الموصل، والرقة، ونهاية حكم الأسد، وما بعد عودة الأمريكان إلى العراق والمنطقة من جديد بدعوى محاربة الإرهاب، وما بعد انتقاء ترمب أعضاءَ إدارته من الكاشفين، أكثر ممن سبقهم، حقيقة (ديمقراطية) المليشيات التي كانت هي التي تنتخب، وهي التي تحرس صناديق الاقتراع، وهي التي تفرز الأصوات، وهي التي تعلن النتائج، وهي التي تُعين النواب والوزراء والمدراء والسفراء، وحراس المصارف والمواني والمطارات.
فحين يفكر المالكي بالعودة لحكم العراق من جديد، بحكاية الأغلبية أو بغيرها، فإنه يكون واحدا من اثنين، إما شمشون الذي هدّ المعبد على نفسه وعلى أعدائه أجمعين، أو أحمق يريد أن يحيي العظام وهي رميم.