تَكمن بعض إشكاليات الرواية المعاصرة، ولا سيما العربية في أنها مسكونة بالمفردات التقليدية من حيث السرد والمنظور والشكل، فثمة هيمنة المنظور المعني بالحكاية، والأيديولوجية في سياق الراهن الواقع كما هو، غير أن هذا النهج أحدث اختلالات على صعيد إدراك الرواية لذاتها، أو بوصفها فناً يحتفي بقدر من التأمل في عالمها الداخلي، القائم على التشكيل، والصياغة. وبما أن الرواية باتت نصاً متعالياً من حيث الانتشار والتمكن، غير أن الراوية العربية لم تغادر ملامح التشكيل التقليدي، أو مخلفات الرواية التقليدية، من حيث طغيان صوت الواقع أو القيم التي تنتمي إلى ما قبل الألفية الثالثة، ونعني المستقبل على مستوى البنى الفنية والفكرية للنص السردي. ليس هنالك من مغامرات تحتفي بصيغ فنية مبتكرة، أو جديدة، ثمة توجهات واضحة للاشتباك مع مقولات المعاصر، بوصفها «موضة إنشائية» حيث يشتغل معظم الروائيين على موضوعات تحتفي باجترار التاريخ، وقضايا تتصل بتموضع الإنسان في عالم مختلط من حيث القدرة على تمثل الحداثة، والانتقال إلى ما بعدها، وكأن الرواية العربية تعيش في عصر غير عصرها، فهي تلهث خلف تمثل مجتمع، أو توصيف لم يصــــل بعد إلى إدراك قيمه الحضارية كمــــا يُعتقد، فهو ما زال يعاني من الحيرة، وهذا ما يعني أننا ما زلنا خلف التاريخ، بل إننا عالقون في وعيه الماضوي والآني، في حين أن تمثيلات المعاصر تستند ـ حقيقة- إلى عوالم جديدة، وقضايا بينــــية، فتطـــغى إشكاليات بسيطة في ظاهرها، ولكنها تعدّ عميقة من حيث قدرتها على عكس حــــيرة الإنســـان، في عالم بدأ يتخفف من المنظور الهادف إلى توصيف الواقع. وعلى الرغم من أن الرواية العربية تدعـــي قيماً فنية متقدمة من حيث الواقعية السحرية، وكتابة الرواية التاريخية من منظور الاســـتلهام والإسقاط، أو تمثل قضايا شائعة، ومنها الهوية، والمجموعات العرقية، أو الكتابة بنسق ما بعد استعماري، أو الكتابات المعنية بالخطابات الاثنوغرافية، ونماذج سلسلة البوكر تشي بذلك، غير أن هذا النتاج لم يرق إلى مستوى تقديم رواية عربية، يمكن أن تنتقل إلى مستوى العالمية، وهذا ما يقودنا إلى مناقشة حضور الرواية العربية في المشهد العالمي، حيث بتنا نحتفي بروايات من سائر أنحاء الكرة الأرضية لروائيين غربيـــين، ولاتينيين، وأتراك، وأفارقة، في حين أن حضور الرواية العربية يبدو عالقا في شرك الواقع ومخلفاته، لكونه معنياً فقط بالإنسان النسقي كما تعرفه العقلية العربية. لا شك أن منظور الواقع، وطريقة التعامل معه يعدّ جزءا من المشكلة، ولهذا ينبغي قراءة هذا الأثر، ومقدار تمكنه من الرواية العربية بأثر من تحولات الرواية العالمية، التي استمرت بتجاوز أزمتها الواقعية، والنسقية، وحتى السياقية، في حين أن الرواية العربية ما زالت عالقة في مفهوم الرواية بوصفها انعكاساً للواقع، ولكن أي واقع نعني؟ لا شك أن الواقع بات مفهوما فاقدا لشرعية التنظير الأرسطي القائم على المحاكاة، أو نمط الرواية الواقعية الأوروبية، فلطالما سادت إشكالية المرجعية الرواية التقليدية، وبالتحديد من حيث مقاربتها للواقع انطلاقا من مقولة أرسطو في المحاكاة، فالرواية التقليدية تعول كثيرا على الواقع ومحاولة الاقتراب من نبضه، وتصويره إلى حد الاستنساخ، وهذا ما يكاد يوجد بامتياز في روايات القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر، ونذكر بهذا الصدد ديكنز وبلزاك، وفلوبير، وتولستوي، وممن جاء بعدهم من أنصار المدرسة الواقعية. يمكن أن تحدد أبرز معالم الروائيين الواقعين بحفاظهم على الشكل الثابت للرواية، من خلال احتواء الرواية على العناصر – يمكن أن ننعتها بالآمنة – كالتسلسل الزمني للأحداث، والاعتماد على الحبكة، علاوة على التركيز على الشخصية، ومعاملتها على أنها كائن حي له وجــــود فيـــزيائي؛ ولذا فإن الكاتب يصف ملامحها، وما يرتبط بها من أحداث ومكان وزمان، فكان التزام المنطق يعد أبرز دعائمها. وهكذا فإن الرواية التقليدية كانت تتشكل عبر محــــورين، هما: المحور الأفقي، الذي تمثل بالارتباط التاريخي، وبذلك كان التاريخ الصورة التي يجـــب ألا تحيد عنها، والمحور الآخر الرأسي الذي يتمــــثل بالارتباط الاجتماعي. وفي كلا المحورين التزمت الرواية بالقيم الاجتماعية والخلقية، والأخلاقية، وببنية متماسكة محكمة، ولكن الباحث في مسار الرواية التقليدية لا يعدم ظهور محاولات خارجة على هذا النهج، ولكنها محاولات مبدئية قادها الروائي فلوبير، من خلال روايته الشهيرة «مدام بوفاري» محاولا إعطاء النزعة الواقعية مدلولا حسيا، من خلال شخصية مدام بوفاري، وبارتكازه على أساليب جديدة تعتمد واقعية التحليل، وصرامة اللغة، كما يذكر عبد الملك مرتاض في كتابه «نظرية الرواية». لقد كانت الرواية في ذلك الزمن تمثل انعكاسا لفلسفة العصر البورجوازية، ومحورها الإنسان الذي كان ينظر له بوصفه محور الكون، كما يصف روب غرييه، ولكن هذه النظرة ما كانت لتستقر في مطلع القرن العشرين، حيث أخذت الأمور بالتبدل والتحول، ما دفع الرواية إلى التحول أيضا، انطلاقا من عدة عوامل، ومع ذلك ينبغي ألا تبقى كما هي، إنما أن يٌعاد تقييمها، والبحث عن الجديد منها، وهكذا ينبغي التعامل مع رواية الألفية الثالثة في ضوء عوامل جديدة.