آخر تحديث:
بقلم : د. ماجد السامرائي
بعض السياسيين والمتابعين للشأن العراقي يعتقدون بأن لا مكان للآمال باحتمالات فرض الأميركان أوضاعا سياسية جديدة في العراق عقب الانتصار على تنظيم داعش وفق برنامج إضعاف النفوذ الإيراني وبناء عهد سياسي جديد تتضاءل فيه سياسات التطرف والاستحواذ الطائفي الضيق على سلطة العراق، وإرغام قيادات الأحزاب على التكيف مع المنهج السياسي المعتدل والعادل تجاه الشعب.
ويرى هؤلاء المستبعدون للسيناريو الأميركي ومعهم بعض السفراء الأميركان الذين خدموا في العراق وسوريا بعد عام 2003 أن الأميركان الذين خسروا العراق وفشلوا فيه لن يعودوا إليه ثانية، وأن إدارة دونالد ترامب لا تهتم كثيرا لشؤون العراق وسوريا إلا بمقدار إنجازها مهمة سحق داعش والحصول على مردودات اقتصادية من العراق يعتقد ترامب بأنه يجب إعادة ما خسره بلده من أموال في هذا البلد خلال الاجتياح العسكري عام 2003.
أصحاب فكرة استبعاد تنفيذ مشروع تغيير سياسي يعده الأميركان ليست لديهم أدلة سوى القول إن طهران لا تسمح بذلك، وكأن نفوذها الحالي لم يكن كذلك عام 2014 حين تمت إقالة نوري المالكي وتنصيب العبادي بدلا عنه.
ولا نريد في هذه السطور الانحياز إلى سيناريو التغيير دون تقديم وقائع سياسية مباشرة، حيث تحرص الإدارات الأميركية دائما على عدم البوح بصورتها الكاملة وتلجأ إلى إخراج مقاطع من تلك الصورة عبر التسريبات الصحافية والسياسية، لكن ما يهمنا قوله هو أن القوتين النافذتين في العراق، واشنطن وطهران، تقاسمتا التأثير على قادة الحكم العراقي وسياسته منذ عام 2003 ولحد اليوم كل بطرقه وأساليبه.
ألم يكن الأميركان هم الذين صمموا ذلك الحكم وسيّروه بصورة مباشرة وبقوة جيشهم المحتل لثماني سنوات، لكن طهران هي المستثمر الرابح من ذلك. ولا نعتقد أن أحدا ينكر بأن النفوذ الأميركي مازال يتحرك في مرافق رئيسية وأساسية عسكرية واستخبارية وإلى حد ما سياسية.
ولعل الدور القيادي الأميركي في محاربة داعش ودحره معروف أيضا وموافقة حكومة بغداد على بقاء قرابة سبعة آلاف مقاتل أميركي من النخبة لا ينكرها أحد، لكن المشكلة التي وصل إليها الوضع السياسي العراقي ومأزق أحزابه تتطلب من الإيرانيين والأميركان كل على انفراد تقديم بدائل سياسية جديدة لإعادة تأهيله، ذلك لأن الأحزاب في العراق غير قادرة على إحداث التغيير المطلوب لأنها متورطة عميقا في حماية الفشل والفساد، ولأن أي تغيير شكلي بالأداء أو بالشخصيات لا يحقق الهدف بل يجدد ويعيد إنتاج الأزمة السياسية وبتداعيات أخطر.
بالنسبة إلى طهران مرتاحة لما هو عليه حال العراق اليوم من تشظي مكوناته واحترابها وسحق سياسيي طائفة لأخرى، وانفلات أمنه وغياب الدولة والقانون وسيادة عصابات القتل في كل مكان وخاصة العاصمة، طالما أن جميع هذه المظاهر المؤذية تلبي مصالح النفوذ السياسي والهيمنة التجارية على البلد. ما يهم طهران هو بقاء حكم الإسلام السياسي الشيعي والحفاظ عليه، وقد لا تعترض على تغييرات بالمواقع الرسمية للأحزاب الكبيرة، وتجربة منع الولاية الثالثة لنوري المالكي تثبت ذلك، هي دائما ما تنبه قادة تلك الأحزاب من مخاطر وصول الخلاف إلى درجة التناحر والقطيعة مما يفسح المجال- في نظرها- إلى فتح ثغرات خطيرة في جدار الحكم قد تؤدي إلى إسقاطه من قبل أعداء الشيعة.
أما بالنسبة إلى واشنطن فقد تركت سياسة باراك أوباما الضبابية جميع النتائج التي يشهدها العراق. أكثر إجراء واضح هو ما فعلته إدارته باستبدال المالكي بالعبادي دون المساس بجميع السياسات التي ساعدت على ظهور التطرف واجتياح داعش لثلث أراضي العراق أي كامل أراضي العرب السنة، والسؤال المهم هل أن إدارة ترامب بعد كل الذي جرى ستترك قضية الحكم على حالها وهي تعلم بأن عدم استقرار العراق يمس المصالح الأميركية باحتمال ظهور تنظيم متطرف أكثر بشاعة من داعش.
الأميركان يشتغلون حاليا على إحداث تغيير مهم في العراق، وهم يلتقون ببغداد بأطياف شتى من المعنيين بالشأن السياسي من النخب الشيعية الحاكمة وغير الحاكمة، ويمررون من خلالهم رسائل باتجاهات مختلفة، وخارج بغداد يلتقون بمن يعتقدون أن له وزنا في التطورات القادمة.
لا شك أن الأميركان لا يرغبون بإزاحة واستبدال الحكم الحالي لنفاذ صلاحياته، لكن لديهم رغبة بإزاحة مشروع الإسلام السياسي الشيعي وإبعاد المتطرفين، سنة وشيعة، عن قيادة العراق، والمشروع الأميركي ليس بعيدا عن لوبي عربي يسانده تطورت معالمه بعد القمة العربية الإسلامية الأميركية بالرياض.
ولعل أكثر المجسات تأثرا هي عند الأحزاب الشيعية الكبيرة التي تمر بحالة استنفار داخلية يعبر عنها بطريقة الانشطارات التنظيمية مرة، ومرة أخرى بتصدير الأزمة إلى خارج تلك المنظومات وقد وضح ذلك في مخاوف نائب رئيس الجمهورية نوري المالكي من “مؤامرة يقودها الأميركان تفضي إلى تأجيل الانتخابات وإقامة حكومة طوارئ الغرض منها- حسب قوله- إبعاد الإسلام السياسي عن الحكم”.
ولكن المرجح بأن تلك الأحزاب لا ترغب في تقديم تنازلات سياسية تمس جوهر أيديولوجيتها المذهبية أو التخلي عن إمبراطورية الفساد، وهي تعتقد أن التغييرات الشكلية ستقنع الجمهور العراقي والأميركان، لكن هذه القناعات غير كافية، والمشكلة الكبرى التي تواجهها هي في تصاعد الخط النقدي لزعيم التيار الصدري وتصديه للقوى الشيعية الأخرى واتهامها بالتخلي عن الناس وبالتخندق الطائفي، وإعلانه الصريح بأهمية انفتاح العراق على محيطه العربي، ما سيضع زعامات تلك القوى (المالكي والحكيم والعبادي) في حالة من الحرج في كيفية التعاطي مع مشكلة الصدر لأنه يمتلك وسيلة قوية لا يمتلكونها وهي الشارع، ويلاحظ عدم وجود نيّة لمهادنة معه في مجال الاستجابة لمطالبه إعادة النظر بآليات العملية الانتخابية بما يخرجها عن هيمنة الأحزاب الكبيرة.
الملفت أن رئيس البرلمان سليم الجبوري عزز موقف الأحزاب الشيعية الكبيرة، رغم أنه لا يمتلك كتلة كبيرة ولديه خط متواضع داخل القوى السنية. ومن المتوقع- وهذا ما لا نتمناه- احتدام الصراع السياسي بين الكتل والأحزاب الشيعية، وقد يتحول إلى صدامات عسكرية في ظل حالة انفلات السلاح وغياب الدولة، إضافة إلى التنامي السريع لقوى سياسية من داخل الحشد الشعبي.
ظروف الأحزاب الشيعية معقدة بعد تضييق فرص تأثير الشعارات التقليدية (محاربة داعش) كما لم تعد حكاية “دعم السعودية ودول الخليج للإرهاب” تفيد في تعبئة الشارع الشيعي، مثلما لا تفيد قضية دعم السعودية لسنة العراق بعد التحولات البراغماتية للسعودية في التعاطي مع الشأن العراقي مع أهل الحكم في العراق (دولة مقابل دولة) وهذا سينهي دور الوسطاء المتلاعبين بالقضية الطائفية، وما سيضاعف من أزمة الوسط السياسي السني ما تعانيه كتله من تشتت وصراع أعنف مما لدى الضفة الشيعية التي تمتلك كوابحها في المرجعيات المعروفة.
أما السنة فهم منفلتون وعمليات التسقيط قد تصل مديات فضائحية، ولن يكون للزعامات التقليدية مكان على شواطئ السياسة يسد ظمأها، على الرغم مما يلاحظ من تحرك جديد داخل الحقل السياسي السني يمثله نشطاء من أصحاب مال وفضائيات تلفزيونية سيترددون على بغداد وبعضهم أجيزت مشاريعه للانتخابات المقبلة وسيقولون لبعض الزعامات الشيعية من دهاة المناورة وأبرزهم المالكي “تعالوا نتفاهم نحن ندعم العملية السياسية وخلفنا من تعتقدون إنهم أخطر خصومكم ونحن لا نتحرش بحكمكم وبخزائنكم ولا بساحتكم الشيعية إعلاميا وسياسيا، مقابل أن تتركوا لنا ساحتنا ونحن نصفيها”.
وقد تقبل مثل تلك العروض لعقد صفقة وفق تكتيكات جديدة للقوى الشيعية النافذة، لكنها لن تبدد المخاوف من اللعبة الأميركية المقبلة وهناك من يدعمها من بين السنة والشيعة من خارج المشهد الذي أثقل على العراق بحصاده المر.