كان جلال الطالباني رئيس جمهورية العراق الأسبق (الذي رحل يوم الثلاثاء 3/10/2017) يردّد دائماً حكمة كردية تقول “ليس للأكراد من صديق سوى الجبال”، وبقدر ما تحمل هذه الحكمة من مرارة، ففيها جزء كبير من الحقيقة ودروس تاريخية ينبغي استيعابها، ذلك إن الجغرافيا السياسية حكمت الكرد إلى حدود كبيرة. وإذا أخذنا بتكوّن عدد من دول المنطقة خلال القرن المنصرم، سنعرف أن مساحة كردستان تزيد على 400 ألف كيلو متر مربع ويقطنها ما يزيد على 35 مليون إنسان موزعة على أربع دول ترتبط معهم بوشائج كثيرة، بعضها في الأصول العرقية وبعضها في اللغة والدين،إضافة إلى التاريخ المشترك والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها.
وكان القسم الأكبر من الكرد يعيشون في حدود الدولة العثمانية، وأصبحوا لاحقاً من مواطني ثلاث دول أنشئت بعد الحرب العالمية الأولى، هي : تركيا (العام 1923) بعد هزيمتها بالحرب ووفقاً لمعاهدة لوزان، والعراق الذي تأسس العام 1921 وسوريا التي تأسست في العام 1925. والقسم الرابع كان في إيران.
ومع إن اتفاقية سايكس بيكو لعام 1916 قسّمت البلاد العربية، كما تم تقسيم شمل الكرد أيضاً الذين كانوا ضحية صراع بين الامبراطورية الفارسية والدولة العثمانية، لعدّة قرون من الزمان، وكانت أرضهم جزءًا من مساومات تاريخية بينهما، اشتملت عليها معاهدات مثل أرضروم الأولى 1823 وأرضروم الثانية 1848 وبروتوكول طهران العام 1911 واتفاقية القسطنطينة العام 1913 وصولاً لمعاهدة سيفر ما بعد الحرب العالمية الأولى. وهكذا حكمت الجغرافيا السياسية كردستان، إضافة إلى المصالح الدولية.
وقد ظلّت القضية الكردية غائبة عن الأروقة الدولية منذ إبطال مفعول معاهدة سيفر لعام 1920 التي اعترفت بجزء من حقوق الكرد، ولاسيّما بعد إبرام معاهدة لوزان، لغاية العام 1991 حتى صدور القرار 688، عن مجلس الأمن الدولي، والذي يتعلّق بكفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية في المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق، ووقف القمع باعتباره تهديداً للسلم والأمن الدوليين.
وكان ذلك القرار، إضافة إلى قرارات دولية عديدة من نتائج مغامرة غزو الكويت العام 1991 التي فرضت العقوبات الدولية على العراق. وقد صدر القرار تحت تأثير الهجرة الجماعية التي شملت مئات الآلاف من الكرد باتجاه الجبال “أصدقاؤهم الوحيدون” حسب الحكمة الكردية.
وبعد ذلك اتخذت الدول الثلاث بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة قراراً باعتبار خط العرض 36 والذي يشمل محافظات كردستان الثلاث السليمانية وإربيل ودهوك ملاذاً آمناً، ومنعت القوات العراقية والطيران العراقي من التحليق فوقه.
ومرّة أخرى دخلت الجغرافيا السياسية على الخط بفعل التنسيق التركي – السوري – الإيراني، الذي ظلّ يتربّص بالتجربة الكردية الوليدة بعد انتخابات العام 1992 والتي رافقها أخطاء عديدة، منها نظام المحاصصة، إضافة على القتال الذي اندلع بين طرفيها الرئيسين: الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) والاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) وهنا كان للجغرافيا السياسية دور في الصراع الدموي الكردي – الكردي، فقد استعان (حدك) بالجيش العراقي في العام 1996 لطرد غريمه أوك من إربيل، وكان أوك ينسق مع إيران ضد عدوّه التاريخي (حدك)، وقبل ذلك مع الحكومة العراقية ضد قوات الأنصار الشيوعية التي شهدت مجزرة في بشتاشان العام 1983.
ولكن في أوقات الشدّة يبقى الأكراد وحدهم يواجهون مصيرهم، في حين تظل الجبال صديقهم الوفي عند الضيق، وتصبح ملاذهم وحاميهم من حملات الغزو، ولكنها في الوقت نفسه كانت تعرقل قيام وحدتهم وتحقيق طموحهم، سواء في الحصول على حقوقهم، أو لقيام دولة خاصة بهم. وهنا تتدخل الجغرافيا السياسية مرّة أخرى ” لتقرير المصير” وقد حصل هذا في العام 1975، فإيران الشاهنشاهية والولايات المتحدة، سرعان ما تنكّرا لحقوق الكرد التي قالوا إنهم يدعمونها ضد حكومة بغداد، وتُركوا وحيدين بعد استفحال القتال بين قيادة القوات الكردية والحكومة العراقية في مارس (آذار) 1974 واستمر لمارس (آذار) العام 1975، حيث تم الاتفاق في الجزائر بتوقيع اتفاقية الشاه محمد رضا بهلوي وصدام حسين نائب الرئيس العراقي حينها، في 6 مارس (آذار) والتي أدّت إلى انهيار الحركة الكردية.
لم تنفع وقتها وعود كيسنجر أو دعم الشاه وهو الأمر الذي ترك مرارة لدى الزعيم الكردي الكبير مصطفى البارزاني، ففي لحظة وجد المقاتلون البيشمركة أنفسهم أمام الجبل، الصديق الوحيد الصامد الذي حنى عليهم واحتضنهم وأخفاهم من الطيران والقصف الذي يتعقبهم، تلك هي دكتاتورية الجغرافيا السياسية التي لا مردّ لها والتي يعيش في كنفها الفرس والترك والعرب والكرد، وكنّا قد دعونا إلى حوار لمثقفي الأمم الأربعة.
وهكذا يعيد التاريخ نفسه، وإذا كان في المرّة الأولى كمأساة ففي المرّة الثانية يبدو كمهزلة، خصوصاً وقد بقي الأكراد عُزلاً بلا معين أو نصير أو داعم، وحتى من يدعم حقوقهم فإنه قد يثير التباساً وكراهية ضدهم في لحظة تاريخية مفصلية، مثلما تحاول “إسرائيل” إظهار تعاطفها مع حقوقهم، وهي التي تضطهد الشعب الفلسطيني وتحرمه من أبسط حقوقه، وباستثناء قناعات فكرية ومبدئية بشأن “حق تقرير المصير”، كمبدأ قانوني وحقوقي لشعب عانى من الاضطهاد طويلاً، فإن ثمة لا أحد يقف معهم، خصوصاً في ظلّ سياسات وتطبيقات ستكون مثار خلاف شديد، إن لم يتم بالتوافق بشأنها وفي ظرف إقليمي ودولي لا بدّ من مراعاته.
إن اختيار “اللحظة الثورية”، أي انسجام الظروف الموضوعية مع الظروف الذاتية أمرٌ في غاية الأهمية إزاء استراتيجية وتكتيك أية حركة أو جماعة سياسية أو تنظيم حزبي، والأمر لا يتعلق بالاستفتاء فحسب، وهي خطوة حصلت وإنْ أثارت ردود فعل حادة، سواء بشأن توقيت الاستفتاء وما يترتب عليه، ولاسيّما في المناطق التي تسمّى ” متنازع عليها” ثم بخصوص إعلان الدولة التي لا تزال تثير التباسات عديدة، ولكن ماذا بعد الاستفتاء؟ وكيف سيتم وضع نتائجه موضع التطبيق في ظل انقسام كردي وغياب الوحدة الوطنية، ورفض عراقي؟ وكانت الشيعية السياسية الحاكمة قد اتفقت مع السنّية السياسية المشاركة، مستنفرة دول الإقليم التي تهدد بالتدخل، سواء من جانب تركيا أو إيران، والأمر يتم بوسائل ناعمة أو خشنة، بالمقاطعة والحصار وإغلاق المنافذ الحدودية والتأليب الداخلي، فضلاً عن وسائل قد تكون غير منظورة.
ليس هذا فحسب، بل إن أصدقاء الكرد ” الجدد” وأعني بذلك قوى التحالف الدولي، ابتداء من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ، كلّها اعترضت على إجراء الاستفتاء أو تحفظت عليه أو طلبت إلغائه أو تأجيله، بل إن قوى دولية عديدة ظلّت تدعو علناً وبأعلى الأصوات بما فيها الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ودول عربية وخليجية ومرجعية السيستاني والأزهر الشريف، إلى وحدة الأراضي العراقية ، بل إن العديد منها اعتبر انفصال كردستان مقدمة لتقسيم المنطقة، وفق خرائط إثنية وعرقية ودينية وطائفية وجهوية لجهات لا تضمر وداً لشعوب المنطقة، الأمر الذي سيثير نزاعات جديدة، إذا ما بدأت فقد تستغرق عقوداً من الزمان، ويكفي أن لدينا صراعاً أساسياً أصبح مستديماً ونقصد به الصراع العربي – “الإسرائيلي”، فما بالك إذا اندلعت حروب طائفية وإثنية، فالأمر سيكون كارثياً بامتياز.
كما إن المصالح النفطية للقوى الاحتكارية الدولية ومن ورائها القوى الكبرى لا تريد التفريط بحلفاء أساسيين مثل تركيا التي هي عضو أساسي في حلف شمال الأطلسي، ولديها علاقات دبلوماسية كاملة مع ” إسرائيل”. أمّا العراق فيمكن أن يذهب بعيداً بالاتجاه الإيراني، ولذلك فإن دعمه والحفاظ عليه موحداً سيكون لصالح استمرار الحفاظ على المصالح الدولية والإقليمية فيه، كما إن موضوع حقوق الكرد في سوريا سيكون مطروحاً على خط النقاشات والمفاوضات، في جنيف والأستانة، وفي أي حل دولي للأزمة السورية، لاسيّما وأن قوات التحالف تدعم “قوات سوريا الديمقراطية” التي تشكل القوى القومية الكردية عمادها، وهو ما سيمهّد لتفاهم روسي – أمريكي على صيغة توافقية ترضي الطرفين، وتأخذ بنظر الاعتبار الموقف التركي.
وبخصوص إيران، فإن الولايات المتحدة والغرب عموماً، يعملون على إحداث تغيير جذري داخلها، خصوصاً وإن هناك تحفظات خليجية وإقليمية على دورها، ولعلّ أي تغيير في إيران أو تركيا ستكون القضية الكردية مطروحة فيه على بساط البحث، وهكذا تبقى كردستان محكومة بالدكتاتورية الجيوسياسية، التي تحتاج إلى تغييرات عميقة باتجاه حلول ديمقراطية في المنطقة لإحداث نوع من أنواع القبول بكيانية كردية جديدة، وربما أكثر من واحدة وأكثر من شكل، وقد يكون سابقاً لأوانه اليوم وفي ظل اختلال توازن القوى، تصوّر قيام حالة كردية مستقلة ومنفردة في ظل غياب وحدة وطنية كردية .
ولعلّ البدء بالحوار لتطويق ما هو حاصل، سواء بقبول حدود ما قبل 19 مارس (آذار) 2003 والتفاوض بشأن المناطق المتنازع عليها وقضايا الحدود والنفط والمواصلات وشكل العلاقة المستقبلي، سواء بالبقاء في العراق وفي إطار الدولة الفيدرالية الموحدة أو في إطار شكل جديد، ربما يكون كونفدرالياً بتعديلات ضرورية للدستور، وإن كان الشكل الحالي أقرب إليه، ولكن إذا كان العيش المشترك مستحيلاً فسيكون ” الطلاق أبغض الحلال عند الله” وليتحمّل الطرفان مسؤولية ذلك، خصوصاً إذا ما تجنّبنا خيار الحرب، وهو الخيار الأكثر كارثية وإيلاماً.
وبالنسبة لكردستان، لا بدّ من قراءة اللوحة الجيوسياسية جيداً، حيث أنها محاطة بجيران أقل ما يقال عنهم أنهم غير مرحّبين بالكيان الجديد، إذا تقرّر إقامته عنوة ودون اتفاق مع الأطراف المعنية، لاسيّما في ظل موقف دولي غير مشجع أو ضبابي على أقل تقدير، خصوصاً وإن الهدف الذي يشكل شبه إجماع إقليمي ودولي هو محاربة داعش وتجفيف منابع الإرهاب، وباستثناء الموقف الفرنسي الذي دعا رئيس الوزراء حيدر العبادي لزيارة باريس في إطار وساطة أعلن عنها، على الرغم من أن الزيارة كانت مقرّرة قبل ذلك كما أشار ناطق رسمي حكومي، فإن الجبال وحدها ستبقى وفيّة إلى النهاية لصداقة الكرد المديدة على أرضهم وفي وطنهم.