أصدرت الحكومة النرويجية قراراً بمنع بيع اي سيارة جديدة في النرويج بدءاً من عام 2025 تعمل على الوقود السائل (أي البنزين والكازولين)، حيث ان نسبة السيارات الجديدة التي تباع اليوم في النرويج وتعمل بالوقود السائل فقط تبلغ أقل من 50٪ (ال 50٪ الاخرى تعمل على الكهرباء اي البطاريات او سيارات هجينة اي تعمل بالبطارية والوقود السائل)، وتبعتها في هذا المضمار هولندا بقرار مماثل تبدأ تطبيقه عام 2025 ايضاً، ثم فرنسا وبريطانيا منذ عام 2040، ولكن في نفس الوقت نكتشف ان هذه الدول سائرة نحو زيادة شراء السيارات الكهربائية بسبب زيادة طلب المواطنين، وتقدر نسبة السيارات الكهربائية والهجينة المشترات في فرنسا في النصف الاول من عام 2017 حوالي 25٪ من السيارات؛ اما الهند فقد اتخذت نفس الاجراء ليطبق من عام 2030، والدافع الاول في الهند هو زيادة التلوث في الجو من السيارات العاملة بالوقود السائل، واتخذت عشر دول اخرى اجراءات مشابهه كألمانيا والنمسا واسبانيا والدنمارك والبرتغال وايرلندا واليابان وكوريا والصين التي تصنع الآن حوالي 40٪ من السيارات الكهربائية في العالم؛ وإلى حد الآن اتخذت ثماني ولايات امريكية إجراءات مشابهة.
التواريخ اعلاه موضوعة من قبل حكومات الدول ولكن ما هو الواقع على الارض؟
الحقيقة المفاجئة هي ان رغبة الاشخاص بشراء السيارات العاملة بالبطارية وتشحن بالكهرباء على ارض الواقع اكبر بكثير وأسرع بمراحل متقدمة عن المهل القانونية التي وضعتها حكومات هذه البلدان، وذلك لإقبال الناس عليها بشكل كبير لمميزاتها العالية وقلة كلف تشغيلها؛ ولكن المشكلة في السابق بل حتى الماضي القريب كانت ارتفاع سعر السيارة العاملة بالكهرباء، فلو قارنا مثلاً بين سيارة تيسلا (TESLA) وهي سيارة كهربائية فخمة وبين سيارة بنفس السعة والمواصفات ولكن تعمل بالوقود السائل، نجد أن كلفة الوقود السائل في بريطانيا على سبيل المثال يبلغ أكثر من ثمانية اضعاف كلفة الكهرباء لشحن بطارية السيارة الكهربائية لتغطية نفس المسافة؛ ولكن عند أنتاج أول سيارة كهربائية قبل خمس سنوات كان سعرها بحدود 150 ألف دولار، والآن أصبح سعر السيارة من نفس الماركة ولكن من صنف آخر جديد لعام 2017 حوالي 35 ألف دولار، وأصبحت هذه السيارة هي السيارة الأولى في نسبة المبيعات في السوق الأمريكية، وبدأت شركة نيسان اليابانية بتصنيع السيارات الكهربائية وبيعها ب 30 الف دولار والتوقعات المستقبلية في أمكانية تصنيع السيارات الكهربائية من قبل الكثير من الشركات العالمية بسعر حوالي 20 ألف دولار أصبح امراً ممكن التحقيق خلال سنتين او ثلاث سنوات، وبالتالي سيكون سعرها موازياً للسيارات التي تعمل على الوقود السائل مع كلف تشغيلية بسيطة جداً.
فالشخص الراغب بشراء سيارة بعد سنتين من الآن لا يوجد لديه سبب لتفضيل سيارة الوقود السائل (البنزين) على السيارة الكهربائية بهذه المواصفات وكلف التشغيل القليلة!!!
توجهت جميع معامل انتاج السيارات في العالم تقريباً لإنتاج السيارات الكهربائية، والكثير من الشركات قررت ايقاف انتاج السيارات التي تعمل على الوقود السائل فقط كشركة فولفو السويدية التي ستوقف تصنيع السيارات العاملة بالوقود السائل وحده من عام 2019.
السيارات الكهربائية فضلاً عن كونها اقتصادية لها مميزات اخرى كثيرة، في عدم تلويثها للبيئة وقلة كلفة صيانتها كما تطورت مواصفاتها مقارنة بمواصفات السيارات الكهربائية التي كانت تصنع في السابق، فأصبحت عملية شحنها في ليلة واحدة تكفيها لقطع مسافة 350 كيلومتر ويمكن شحنها من قبل اجهزة الشحن السريع التي اخذت تنصب في الاماكن العامة قرب المقاهي ومراكز التسوق في مختلف انحاء العالم حيث عندما تشحن لمدة نصف ساعة سيكفيها ذلك للسير لمسافة اكثر من 250 كيلومتر، كما يمكنها السير بسرعات تبلغ حوالي 250 كلم/الساعة، ونتيجة لهذه الميزات فإن التقارير الاقتصادية العالمية تشير إلى توقعات بتحول جميع شركات تصنيع السيارات العالمية من تصنيع السيارات التي تسير على الوقود السائل الى تصنيع السيارات الكهربائية فقط. ويتوقعون حصول التغير الكامل بحدود عام 2025 لعدم رغبة الناس في المستقبل بشراء السيارات العاملة بالوقود السائل فقط لارتفاع كلفة تشغيلها (لمن يريد الاطلاع يمكنه مراجعة الكثير من التقارير الاقتصادية العالمية بهذا الشأن، كتقرير صحيفة التلغراف البريطانية في شهر 5 لعام 2017:
يشبه المحللون الاقتصاديون من سيشتري سيارة تعمل بالوقود السائل عام 2025 كمن يشتري في يومنا الحالي كاميرا كوداك تصور على افلام مرحلة القرن العشرين.
ما هو انعكاس هذا الواقع على استهلاك النفط واسعاره؟
المعروف عالمياً ان حوالي نسبة 68٪ من النفط المنتج في العالم يستهلك كوقود للسيارات، ومعنى هذا توقع هبوط استهلاك النفط عالمياً بحدود عام 2025 الى اقل من 50٪ مما يستهلك من النفط في يومنا الحالي، ومعنى هذا ايضاً توقع هبوط اسعار النفط بشكل كبير حيث تشير التوقعات العالمية الى السعر المستقبلي الذي يمكن ان يتراوح بين 15$ الى 25$ دولار للبرميل الواحد.
كيف سيكون الوضع الاقتصادي للعراق في المستقبل القريب؟
بسبب قلة تصدير كميات النفط العراقي الى النصف نتيجة لقلة الطلب العالمي فضلاً عن هبوط اسعار النفط الى النصف او الى الثلث من سعره في يومنا الحالي فستتقلص الموارد النفطية بشكل كبير، وسوف لن تكفي موارد النفط لدفع ربع معاشات العاملين في القطاع الحكومي في احسن الاحوال بل عُشر المعاشات في اسوأ الاحوال؛ ومهما كانت الزيادة في الضرائب والرسوم فلن تقدر على تغطية هذا النقص الكبير، كما ستتوقف عجلة الاستثمار والتعمير بشكل كامل.
فضلاً عن كل ذلك سيتم انهاء بناء سد اليسو في تركيا وتعبئته خلال فترة لا تتجاوز السنتين، وستتقلص عندها مياه نهر دجلة بشكل كبير وستزداد ملوحته بشكل كبير ايضاً وهذا مما يفاقم الامر.
لذلك يخشى بشكل كبير نتيجة لهذا الواقع ان ينهار البلد بشكل كامل في المستقبل القريب ان تركت الامور على عواهنها.
فما هو الحل؟
التقارير العالمية تشير الى استقرار اسعار النفط بل حتى امكانية صعودها جزئياً حتى عام 2021 – 2022 اي أربع الى خمس سنوات من الآن وبعدها ستهبط اسعار النفط بشكل فجائي وسيهبط الاستهلاك بشكل متسارع.
عندما كنت وزيراً للاتصالات قدمت دراسة متكاملة عام 2011 لرئيس الوزراء السيد نوري المالكي وارسلت نسخاً منها للأمانة العامة وجميع المحافظين في جميع المحافظات لتطوير القطاع الخاص واستقطاب الشباب والخريجين للعمل ضمن مشاريعهم الخاصة وعدم الاعتماد على موارد النفط، واهتم رئيس الوزراء بهذه الدراسة، وتلقيت عدة تعليقات من عدة جهات، ولكن اهملت هذه الدراسة ولم يطبق شيئاً منها غير توفير القروض الميسرة للقطاع الصناعي والزراعي من قبل البنك المركزي عام 2015، ولكن ذلك لن يكون فعالاً ويحقق نهضة حقيقية للبلد إن لم يكن ضمن مخطط متكامل طرحته في دراستي الآنفة الذكر.
واتفقت في عام 2012 مع شركة (Booz Allen) الاستشارية العالمية لعمل دراسة متكاملة لتطوير وزارة الاتصالات وتشخيص مكامن الضعف وتحويلها إلى مؤسسة ربحية مساهمة كقطاع مختلط تكون مثالاً يحتذى به من قبل باقي الوزارات، ومنح العاملين فيها أسهماً للعمل بجد واخلاص، وبيع قسم من الاسهم للمواطنين بأسعار زهيدة ليستفيد منها المواطن العادي؛ وبادرت بطرح الكثير من المشاريع الريادية التي تحقق ارباحاً كبيرة ونهضة للبلد، كمشروع التعليم الريادي، ومشروع الطب من على البعد، ومشروع المدينة الذكية، ومشروع الكابل المحوري الذي يربط بين أوربا وشرق الكرة الارضية ويدر ارباحاً كبيرة على البلد، ومشروع بوابات النفاذ الذي أخذ يدر ربحاً على الوزارة يتجاوز الستين مليون دولار سنوياً، ومشروع مراكز المعلومات المهم والاساسي في بغداد وعدة محافظات اخرى، فضلاً عن المشروع الامني لأمن بغداد وامن الحدود العراقية السورية، ولكن كل هذه الخطط اهملت بعد تركي للوزارة حيث مثل هذه الخطط لا تحقق للمسؤولين عن الوزارة فوائد خاصة لهم، فهمهم الاساس هو الفساد لتحقيق مصالحهم الشخصية.
وقد قمت في أكثر من برنامج تلفزيوني في نهاية عام 2013 وبداية عام 2014 بالتنبيه لزيادة الانتاج العالمي للنفط على الاستهلاك العالمي والذي معناه هبوط اسعار النفط، اعتماداً على تقارير البنك الدولي وتقارير عالمية اخرى؛ وهبطت بالفعل اسعار النفط في اواسط عام 2014 كما تم ذكره في هذه التقارير العالمية ولكن هل كان يوجد من يشعر بالمسؤولية من الحكام في ذلك الوقت فيتحرك لوضع سياسة اقتصادية لتنويع مصادر الدخل لتقليل الاعتماد على النفط، بل وضع خطة عملية وفعالة لبناء اقتصاد متين لا يعتمد على النفط كما هو حال الكثير من دول العالم التي لا تمتلك النفط؟ استطيع ان اقول بكل ثقة ان هذا الامر كان يمكن تحقيقه بشكل كامل ان توفرت النية الحقيقية والاخلاص والكفاءة وخطة اقتصادية مدروسة وممكنة التطبيق !!!
لقد طرحت حلولاً في عدة برامج تلفزيونية ومقالات عديدة كتبتها ونشرتها في الاعلام عام 2015 و2016 لكيفية وضع سياسة نقدية سليمة لتقليص القروض، ولكن لم يكم هناك احساس بالمسؤولية لمن هم في موقع المسؤولية، فبلغت الديون على العراق حتى يومنا الحالي نحو 120 مليار دولار، حيث استدانت الحكومة العراقية أكثر من 60 مليار دولار للسنين 2015 و2016 و2017 والآن ستستدين أكثر من 20 مليار دولار لعام 2018، فكيف سنسدد هذه القروض وفوائدها؟! هناك بعض المدافعين الذين يزعمون اننا سنسدد هذه الديون من صعود اسعار النفط العالمية! هذه المقولات هي مجرد خيالات، للأسف حديثي في وادٍ ومن بيدهم مقاليد الامور في وادٍ آخر.
والآن فإنني احذر من مستقبل اقتصادي خطير ومخيف لبلدنا، اخطر من جميع ما مررنا به سابقاً، وهذا ليس تحليلي الخاص، بل دراسات اقتصادية عالمية؛ ومع ذلك ما زال امامنا اربع إلى خمس سنوات على ابعد الحدود لوضع سياسة اقتصادية لتنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد على موارد النفط فقط، للنهوض بالبلد صناعياً وزراعياً وجميع الحقول الانتاجية الاخرى وهي كثيرة ويمكن ان تدر دخلاً يعوض العجز في الموازنة بكل سهولة مع وجوب احداث نهضة في القطاع الخاص وتطويره وفتح ابواب الاستثمار الخارجي على مصراعيه؛ ولكن ما اخشاه هو ليس وجود سياسة اقتصادية خاطئة وغير صحيحة للبلد، بل هو للأسف عدم وجود اي سياسة اقتصادية لدى الحكومة، فالمتصدون للوضع الاقتصادي لا يفقهون ماذا يحصل في العالم وما هي التوقعات الاقتصادية المستقبلية؛ بل لعلهم لا يفقهون حتى معنى او تعريف عبارة (السياسة الاقتصادية)، فلم نسمع منهم الملامح والخطط والاهداف المطلوب تحقيقها لرسم سياسة اقتصادية سليمة وصحيحة للنهوض بالبلد لإخراجه من مستنقع الازمات الاقتصادية التي تعصف به اليوم ولإنقاذه من مستقبل مجهول وخطير واخطر بكثير من الواقع الاقتصادي المتردي الذي نعيشه اليوم. وأستطيع ان اقول بكل ثقة انها ستكون فرصتنا الخيرة لإنقاذ بلدنا من انهيار محتم.
مع ذلك يبقى املنا بالله كبير لوجود كفاءات عراقية ووجود اناس مخلصين لعل أحدهم الدكتور حيدر العبادي رئيس مجلس الوزراء، ولكن الغالبية المتصدية للأسف اغلبهم من الجهلة ومن الفاسدين؛ نأمل ان يتغير هذا الوضع الى الافضل فيما هو قادم من الايام فليس ذلك على الله ببعيد.