آخر تحديث:
بقلم: حامد الكيلاني
رغم أن قرار اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس عاصمة “أبدية” لإسرائيل يأتي ضمن مراجعة نصف سنوية منذ 22 عاما، وتناوب على احتمال التوقيع عليه أكثر من رئيس أميركي، إلا أن العديد من قادة العالم وفي مقدمتهم القادة العرب وزعماء الدول الإسلامية عبّروا عن صدمتهم وكأنهم شاهدوا شبحا يخرج عليهم وعلى شعوبهم من الأفق دون سابق إنذار أو إشعار.
يترتب على القرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وهو أيضا ليس جديدا في أطروحاته وتمت مجابهته سابقا بدبلوماسية عربية توخت إيصال رسالة موحدة من النظام السياسي العربي وبدعم إسلامي ومواقف دول ومنظمات للتعبير عن مخاطر مثل هذا القرار وتبعاته وارتداداته على المستوى الشعبي، لما لمدينة القدس من وقع تاريخي توارثته الأجيال وتقاسمته على مـدى قرون من الصراعات، وكذلك من التعايش في تجارب صقلت العلاقات بين شعوب العالم، تجارب بدت فيها مدينة القدس رمزا أو مدرسة إنسانية لتعلم معنى احترام الآخر تحت سقف الديانة الإبراهيمية الجامعة.
التجارب العميقة والمؤثرة التي مرت بها مدينة القدس، وتحديدا منذ نكبة العام 1948 أعادت إلى الأذهان مآسي التعصب في الاستحواذ على مصير المدينة بالقوة أو بفرض الأمر الواقع في حقب افتقد فيها النظام العالمي إلى التوازن مما أدى إلى تكرار التخندقات بين الشعوب، وأحيانا في تجاوز على جوهر قضيتها لتكون في خدمة أجندات مختلفة على قائمة السياسات والعلاقات الدولية أو ما يتعلق منها بضغوط محلية كما هو الأمر في اتخاذ القرار الأميركي.
بعد نكبة العام 1948 ومهما قيل حينها وبعدها، وصولا إلى نكسة الخامس من حزيران عام 1967، كانت ثمة انتقادات لاذعة لخيبات الأمل من الواقع العربي السياسي وقدراته القتالية وجهوزيته، لمواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية المدعومة بجسور جوية فاعلة ومتفوقة تكنولوجيا.
لكن على الرغم من كل تلك الخيبات كانت هناك التماعات ثقة في معارك أخرى كمعركة الكرامة عبر نهر الأردن، أو في حرب أكتوبر 1973، ثقة في الدفاع العربي المشترك وبوحدة الأمة العربية في تاريخ حافل بالأصداء بنفوس الشباب العربي الذي تحول إلى عمل تطوعي في منظمات الكفاح المسلح التي انتهت، مع الأسف، بالانتقال من الدفاع عن المبادئ السامية إلى مزادات قُطرية وشخصية وأيديولوجية أضاعت ذلك الوهج العاصف في مركزية النضال العربي وتمحورها حول هدف واحد يتمثل في القضية الفلسطينية ودعمها ولو بالحد الأدنى من التضامن.
كانت فلسطين إجماعا لكلمة لا يمكن الخروج عليها أو خرقها، والضامن في ذلك هو الشعب العربي الموحد في أعماقه وانتمائه الضاغط حتى على الأنظمة المرتبكة بحكم تأرجحها بين تكاليف واجباتها الوطنية والقومية، وبين مصالحها وعلاقاتها الدولية.
اتصالات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعدد من القادة العرب قبل اتخاذه رسميا القرار المثير للاستياء، لم نتبين ملامحها كاملة، لأن ما خرج منها للإعلام متشابه وبجملة قصيرة لا تتعدى الإبلاغ باتخاذه القرار.
يبدو الإبلاغ منقوصا لأنه خارج الاعتبارات العقلانية في السياسة الدولية، ولا مبرر له ولن يغير شيئا من نص تأثير القرار على الدول المعنية بالاتصالات، إلا إذا كانت فيه إشارة إلى رغبة أميركية في عدم التصعيد الرسمي من قبل أصدقاء الولايات المتحدة، أي في حالة استباق لاستيعاب الصدمة.
لكن مع ذلك ومع توقيت نقل السفارة الذي يستغرق الفترة الرئاسية لإدارة دونالد ترامب مع احتمال بعدم فوزه بالدورة الانتخابية الثانية، تظل تلك الاتصالات وتلميحات التهدئة في خطاب اتخاذ قراره، ثم طلبه تخفيض مظاهر الاحتفالات من الجانب الإسرائيلي، معرفة دقيقة بردات الفعل والإحباط في الشارع العربي والإسلامي مع الانتقادات الواسعة من كل الاتجاهات والمصادر.
القدس الشرقية كانت ضمن الاحتلال وأضيفت إليها القدس الغربية بعد نكسة حزيران 1967، أي أن مدينة القدس بكاملها محتلة من الكيان الصهيوني. فما الجديد في القرار الأميركي؟ ولماذا صادق عليه الرئيس ترامب في هذا التوقيت رغم أنه لم يصادق عليه في موعد مراجعته الأول خلال فترة رئاسته؟
بديهي التأكيد على تعهدات الرئيس ترامب في رحلة حملته الانتخابية وهي وعود قطعها لناخبيه بعد فترة استثنائية لدورتين تولى فيها الرئيس السابق باراك أوباما إدارة البيت الأبيض بأصوله الأفريقية بما لها أو عليها في السياسة الأميركية الداخلية والخارجية، وهي في كل التوصيفات كانت خروجا شكليا ربما لم تشهده أميركا لعقود طويلة.
فوز الرئيس دونالد ترامب كان صادما للمراقبين ومبعث قلق وشك ورفض من جماهير الحزب الديمقراطي، وحتى من بعـض الجمهوريين ولا يتوقف الأمر على “روسيا غيت”، بل يتعداها إلى جولات وحملات سياسية وإعـلامية استهدفت، ومازالت، استلاب الفترة المتبقية من فترته الرئاسية الأولى.
القرار حول القدس لا يجري خارج إيقاع كسب الأصوات إليه في مجلس الشيوخ أو مجلس النواب على حد السواء ومن الرأي العام الأميركي أيضا وبتأثير اللوبي الصهيوني المعروف بسطوته على القرار السياسي والاقتصادي الأميركي.
تفسير القرار أو التوجهات كامن في حل الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية على ضوء تاريخ الصراع بين الطرفين وبالخلفيات الداعمة لهما؛ في سياسة عربية فلسطينية تتنازل تباعا للقبول بأرباع الحلول بعد أن كان بإمكانها أن تحصل على أنصافها أو أكثر.
الولايات المتحدة والرئيس ترامب يدركان تماما أن المفاوض الفلسطيني مهموم بتحقيق المصالحة بين منظمة التحرير الفلسطينية، وبين ما يتجاذب حركة حماس الإسلامية من المشروع الإيراني الذي أودى بالقضية المركزية للعرب إلى التراجع بعد ويلات تمدد الميليشيات الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان، وما يجري في اليمن الآن ماثل للعيان من همجية ووحشية تلك الميليشيات. المتاجرة بالدم الفلسطيني والعربي وبشعارات القدس في مزاد البورصة الإيرانية مهدت لاحتلال عملائها للعراق، بعد ازدواجية عمالتها للاحتلال الأميركي.
قادة حزب الدعوة الحاكم في العراق، الذين نصبهم المحتل الأميركي في عمليته السياسية، يحاولون بصلف بالغ الظهور كمناضلين في الدفاع عن مدينة القـدس ضد القرار الأميركي، مستغلين لحظة تاريخية وفرها الرئيس ترامب في إقراره بالقدس عاصمة لإسرائيل، بما يوفر لنا القناعات بالمزيد من تمدد الإرهاب الإيراني على الأرض العربية؛ وكأن القرار الأميركي هدية ومكافأة سخية للنظام الإيراني على ما بذله فيلق القدس عن طريق تدمير وإبادة المدن العربية العريقة.
علمتنا القدس أن كل الآخرين بشر ولهم حق الحياة بكرامة وحرية؛ وعلّمنا التصديق على القرار الأميركي باعتبار القدس عاصمة “أبدية” لإسرائيل قراءة لحل الدولتين بفرض أبجدية إسرائيل أولا. مع هذه القراءة لم تعد سياسة الجدران العازلة مثار استغراب في الحاضر أو في المستقبل.