الثقافة والحياة الخاصة

الثقافة والحياة الخاصة
آخر تحديث:

ياسين النصير
 لم ترتفع الثقافة  إلى مرتبة تكون عامة في حياتنا، كل الثقافات  تبدو خاصة، حتى تلك التي تهتم بالشؤون العامة، ومرد ذلك إلى طبيعتها، لا تكون جماعية إلا من خلال الورش والإنتاج المعرفي ، وإلا فهي نتاج فردي لفئة منعزلة، فئة لا تنتمي لأية طبقة اجتماعية، والخصوصية التي نصنعها كأفراد فيها تبقى في حدود ذاوتنا، في حين أنَّ الثقافة كالهواء والماء والنور وجودها العام  يعني العيش في ظلالها المختلفة. ولكن واقع الأمر لا يدل على جماعية العيش، إن تأملا لعلاقة المكتبة بالإنسان مثلًا نجد إقترانها بالبيت أكثر اقتران البيت بها، بمعنى أنَّها لم تنشأ كجزء من عمارة البيت، فأنت لا تبني بيتا من أجل مكتبة، ولكن المكتبة لمرونتها تجد لها حيزا في أي بيت. 
ولذلك يكون معمار المكتبة العامة الداخلي فيه شيء من الألفة البيتية مما يجعلها متاحة وجوديا لأن تكون ألفتها ثقافة أيضًا. فالمألفة داخلية قبل أن تكون إجتماعية عامة، كل منا يفضل مكتبة بيته على المكتبة العامة، إلا في حالات لاتجد ما تبحث عنه في مكتبتك.ربما ثمة صلة خفية بين تحقيق الذات كوجود وتحقيق الرغبة في أن يكون الوجود ضمن الآخرين، هو أن تجعل من المكتبة العامة مثلا نافذة للإتصال بالآخرين، ومن خلال ما نعرفه عن الثقافة، كونها المجال الحيوي الذي يردم الهوة بين الفرد والجماعات نجد ذلك لا يتحقق إلا متى ما كان حيز اشتغالك جماعيا، عندئذ تصبح الكتب التي تقرأها في مكتبتك البيتية كافية للرؤية للعالم من نافذة عالم البيت. كل الثقافات تبدأ من مائدة البيت، من اللعب مع الصحبة،من العلاقة في المدرسة، من التحرش الطفولي بالنساء، من الشراء والبيع والتبادل والنقل، من المشاركة في افراج القرية وأحزانها، كل ذلك لأن المكتبة من الأشياء اللامفكر بها في حياتنا إلا متى ما تفاعلت تلك المعارف العلائقية مع المحيط. اشياء كثيرة غير مفكر بها، تتحول لاحقا إلى اهتمامات كبيرة. فمن عاش فترات الملاحقات السياسية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مثلا، يجد وجود مكتبة البيت جريمة ومخالفة للنظام السياسي والتقاليد الدينية. 
وكلنا يمتلك قصصا وحكايات عن الكيفية التي تتضاعف فيها التهمة السياسية بوجود مكتبة في بيوتنا، الآن الأمر ليس بهذه البساطة، فالسلطة يومذاك لا تعرف ماهية الكتاب، إلا بأنه قوى مناهضة لها، إن دوران العجلة هذا يشير إلى اضطراب القيم والمفاهيم التي تخص وجود الكتاب، وليس الأفكارفقط، لنجد أنفسنا بعد سنوات إنَّ اقتناء الكتب وتكوين مكتبة شخصية قوة، وقد مارستها شخصيًا في أكثر من مرة فتش فيها بيتي في البصرة وبغداد، وحتى  الثمانينيات، وحتى بعد عام 2003، تحولت المكتبة الشخصية إلى ثقافة مسلحة بالمعرفة ضد الثقافة التي تعتبرها تهمة، فترسيخ وجود المكتبة في البيت شكل من أشكال الإرتباط بين المسكن وهوية الساكنين. وهو ما يؤشر إلى الرحلة الطويلة التي قطعها الإنسان المثقف كي يجعل مكتبته بيتا وبيته مكتبة. 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *