تُجرى الانتخابات النيابية في العراق لإضفاء نوع من الشرعية على وضع قائم بقوة المحاصصة الطائفية التي تتسيد واجهتها أحزاب، صار العراقيون يعرفون توجهاتها من غير أن يأملوا في شيء يعيدهم إلى قاعدة مشروع وطني يوحدهم وينهي أزماتهم ويخرجهم من النفق الذي وقعوا فيه منذ أن حلت كارثة الاحتلال ببلادهم.
غير أن سؤالا من نوع “هل يرغب العراقيون بحكومة شرعية في ظل الوضع القائم؟” في إمكانه أن يسلط الضوء على تلك العلاقة الملتبسة بين الشعب والانتخابات في سياق الزمن العراقي العصيب والعصي على مفارقة أسباب تعثره وتلكؤه وسوء أحواله، بما أن كل رغبة في التغيير تصطدم بجدار أصم، نجحت الأحزاب في تشييده.
وإذ يذهب العراقيون إلى الانتخابات من غير أمل في التغيير فإنهم انما يمارسون لعبة عبثية، يظهرون من خلالها كما لو أنهم أدوات لتنفيذ إرادة أقوى من ارادتهم. وبذلك يكون كل حديث عن إرادة الشعب هو نوع محبط من الإنشاء الذي ينتمي إلى الامنيات ولا علاقة له بالوقائع على الأرض. لقد ندم العراقيون غير مرة على أنهم وهبوا أصواتهم إلى مَن لا يستحقها ولكنهم في الوقت نفسه لم يهتدوا إلى الطريق التي تقودهم إلى الوسيلة التي يستطيعون من خلالها أن يهبوا تلك الأصوات إلى مَن يستحقها.
ما صار ثابتا بالنسبة للعراقيين أن الانتخابات التي تشرف عليها أحزاب نظام المحاصصة لا يمكن أن تنتقل بهم من منطقة الندم. فتلك الانتخابات مصممة من أجل أن تذهب أصواتهم شاءوا أم أبوا إلى مَن لا يستحقها من أعضاء تلك الأحزاب الذين سيحتلون كراسيهم في مجلس النواب ممثلين لمصالح أحزابهم وكتلهم السياسية ولن يقوموا بأي دور من أجل الدفاع عن مصالح الشعب ورغبته في التمتع بثروات بلاده.
الأمر المؤكد بالنسبة للعراقيين أن مجلس النواب هو المكان الذي تتفاوض فيه الأحزاب الحاكمة على تقاسم الغنائم بما يؤدي إلى رضا جميع الأطراف. وما شهده المجلس في السنوات السابقة من تسويات مريبة في قضايا الفساد التي زلزلت اقتصاد البلد هو خير دليل على أن “الشرعية” المفترضة هي عبارة عن مكيدة استطاع من خلالها الفاسدون أن يأمنوا العقاب ويبعدوا عنهم شبح المساءلة القانونية.
فمَن يُساءل مَن في ظل ذلك الاشتباك المعقد بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية؟
لا يزال في إمكان الأحزاب المكرسة بقوة نظام المحاصصة أن تأمل في منح وجبة جديدة من أتباعها فرصا للإثراء غير المشروع إسوة بالوجبات السابقة التي صار أفرادها من أصحاب الملايين والعقارات والاستثمارات المنتشرة بين مدن العالم.
كل تلك الخدمات التي تقدمها الأحزاب لمنتسبيها ما كان من الممكن أن تنجز لولا نعمة الديمقراطية التي هبطت على العراق بعد الاحتلال الأميركي. فبسبب تلك الديمقراطية صار هناك لصوص شرعيون ومرتشون شرعيون ومبتزون شرعيون ومروجو صفقات مشبوهة شرعيون.
لقد أصيب الشعب العراقي فجأة بداء “الشرعية” وهو داء لا علاج له كما يبدو. لقد صار على الشعب العراقي واجبا أن يهب الشرعية لحكامه وإلا فإن وجوده سيكون محل شكوك. فالأمر لا يتعلق بالحكام بل بالشعب نفسه.
ولأن الشعب لا يخشى اغضاب أطباءه الروحانيين وهم رجال الدين إذا لم نقل إنه يسعى إلى استرضائهم لغايات آخروية فإنه يذهب طائعا إلى مراكز الاقتراع بالرغم من قناعته من أنه يفعل ما لا يمكن أن يجلب له خيرا في حياته.
المعادلة الصعبة تلك تضعنا مباشرة في مواجهة الجهل الذي صار العراق الجديد واحدة من أهم مزارعه في العالم. ولقد كدح سياسيو مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي كثيرا من أجل أن يكون العراق كذلك.
فلو افترضنا أن الناخبين في العراق قرروا في لحظة الهام وطني مقاطعة تلك الانتخابات الصورية فليس مستبعدا أن تتدخل المرجعية الدينية وتدلي بدلوها من أجل حث رعاياها على المشاركة باعتبارها تلك المشاركة نوعا من الواجب الشرعي.
لقد لعبت مرجعية النجف الدينية دورا خطيرا في الحياة السياسية بما يخدم مسعى تزوير الحقيقة. وهو ما أدى إلى أن يقع الشعب ضحية حبائل شرعية مجردة من عناصرها الإنسانية والأخلاقية.
ما سيفعله الشعب العراقي إرضاء للمرجعية وخوفا منها سيهبه أربع سنوات جديدة من المشي القلق على الحافات.