شهدت العلاقات العراقية – الأمريكية تصدّعاً كبيراً بعد الإٌطاحة بالنظام الملكي إثر ثورة 14 يوليو (تموز) العام 1958، وظلّت في حالة فتور وعدم ارتياح وريبة وعداء، تعمّق مع مرور الأيام، حتى وقوع العراق تحت الاحتلال العام 2003 . ويمكن رصد ثلاث محطات أساسية تعرّضت فيها المصالح الأمريكية إلى ضربة موجعة في العهد الجمهوري.
المحطة الأولى – بعد الثورة مباشرة، ولاسيّما في إعلان الخروج من حلف بغداد “حلف السنتو”. وعلى الرغم من أن واشنطن لم تكن عضواً رسمياً في الحلف، إلّا أنه كان مدعوماً منها باعتباره حلقة مهمة من حلقات مشروعها في المنطقة القاضي بتطويق الشيوعية وتقليص نفوذ حركة التحرّر الوطني، حيث كان الحلف يضم تركيا وإيران وباكستان والعراق وجميعهم حلفائها آنذاك، إضافة إلى بريطانيا. وكان إقدام العراق على إلغاء المعاهدة الأمريكية – العراقية المبرمة بين البلدين العام 1954، والتوجّه صوب الكتلة الإشتراكية، وخصوصاً الاتحاد السوفييتي، أحد الأسباب الأساسية في الافتراق والعداء اللاحق بين البلدين.
المحطة الثانية- قطع العلاقات بين العراق والولايات المتحدة، بعد عدوان الخامس من يونيو (حزيران) العام 1967، بسبب انحياز واشنطن إلى تل أبيب ودعمها عسكرياً وسياسياً، وهو الأمر الذي أضعف من دورها في المنطقة العربية والعالم الإسلامي ككل، بل وأساء إلى سمعتها.
المحطة الثالثة – تأميم النفط العام 1972 وخسارة الشركات الأمريكية لمليارات الدولارات. وكان النفط أحد أسباب واشنطن في مناصبة العداء للعهد الجمهوري الأول، وخصوصاً بعد صدور القانون رقم 80 لعام 1961 الذي تم بموجبه استعادة 99.5% من الأراضي العراقية من أيدي الشركات الاحتكارية للتنقيب عن النفط.
وكانت الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 فرصة جديدة لواشنطن لاستعادة شيء من نفوذها المفقود، مستغلة اندلاع الثورة الإيرانية العام 1979 وتوتّر العلاقات الخليجية- الإيرانية ، حيث عملت على إدامة أمد الحرب حماية لمصالحها الاستراتيجية.
وكشفت فضيحة إيران غيت وكذلك المعلومات الاستخبارية والعسكرية المسرّبة إلى بغداد، السياسة الازدواجية التي مارستها طيلة تلك الفترة والتي انقلبت بعدها ضد بغداد إثر الغزو العراقي للكويت العام 1990، وقادت حملة لتحريره العام 1991، ثم فرضت حصاراً دولياً على العراق دام ما يزيد عن 12 عاماً (من العام 1991 ولغاية العام 2003)، وصولاً إلى احتلال العراق تحت حجة “وجود أسلحة دمار شامل” و”ضلوعه بالإرهاب الدولي”، وهي نفسها التي أخرجته من قائمة الدول الراعية للإرهاب خلال الحرب مع إيران.
وفي الوقت نفسه أزيلت بعض العوائق عن الصادرات الأمريكية المتوجّهة إلى العراق، ووصل حجم التجارة البينية إلى ما يقارب مليار دولار سنوياً عدا التجهيزات العسكرية الأمريكية، وهو ما أشار إليه الكاتب الصحافي الفرنسي آلان غراش رئيس تحرير جريدة لوموند ديبلوماتيك في كتابه ” الخليج : مفاهيم لفهم حرب معلنة” الذي صدر في العام 1991.
وكان الرئيس جورج دبليو بوش قد وضع ثلاثة أهداف له للحرب على العراق أولها- نزع سلاح صدام حسين ، وثانيها – جعل العالم أكثر أمناً، وثالثها – تحرير الشعب العراقي (والمقصود نشر الديمقراطية على الطريقة الأمريكية). وبغض النظر عن عدم شرعية الأساس القانوني وبطلان الادعاءات وزيف الاتهامات، فإن النتائج العملية تقول: إن العالم لم يصبح أكثر أمناً، بل ازدادت التهديدات الإرهابية، وإن واشنطن أول من قام بانتهاك حقوق الإنسان في العراق، وقد كشفت حوادث التعذيب ومحاولات إذلال العراقيين ذلك، لاسيّما ما حصل في سجن أبو غريب ومجازر الحديثة والإسحاقي ومذابح الفلوجة وغيرها.
وحتى العملية السياسية التي صنّعتها واشنطن لم تكن قادرة على “نقل العراق من الدكتاتورية إلى الديمقراطية”، لأنها قامت على نظام المحاصصة الطائفي الإثني وتقاسم السلطة على نحو أدى إلى شيوع ظواهر الإرهاب والعنف والفساد المالي والإداري والرشا، ناهيك عن استشراء الميليشيات خارج نطاق الدولة وانتشار السلاح على نحو لم يسبق له مثيل، خصوصاً في ظل ضعف هيبة الدولة، وصعود مرجعيات لموازاتها مثل المرجعيات الطائفية والإثنية والعشائرية والمناطقية وغيرها .
أما حقيقة أهداف واشنطن فقد كانت ثلاثة أيضاً – الأول- اقتصادي وهو متمثلٌ بالنفط وتوابعه والثاني – أمني استراتيجي وهو متمثلٌ بالموقع الذي يحتله العراق في علاقاته مع واشنطن، ولاسيّما في مواجهة إيران والإرهاب و”أنظمة الشر”، والثالث ديني حسب معتقدات بوش، التي هي خليط من أفكار دينية وأوهام تاريخية.
وفي المرحلة الجديدة ما بعد الاحتلال مرّت العلاقات العراقية- الأمريكية بخمس فترات يمكن تصنيفها كالآتي – الأولى بدأت بالحكم المباشر للجنرال جي غارنر واستمرت من 9 نيسان (ابريل) ولغاية 13 أيار (مايو) 2003، حيث تسلّم القيادة منه بول بريمر. والثانية بحكم مدني مطلق للحاكم الأمريكي السفير بول بريمر، واستمرت حتى 30 يونيو(حزيران) العام 2004، وكان قد أصدر “قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية” في 8 آذار (مارس) 2004 وشكّل مجلساً للحكم الانتقالي تابعاً له في 13 تموز (يوليو) 2003.
الثالثة- بدأت بعد إجراء انتخابات على أساس دستور دائم في العام 2005، حيث تم الاستفتاء على الدستور في 15 اكتوبر/تشرين الأول وأجريت على أساسه الانتخابات في 15 ديسمبر /كانون الأول من العام ذاته. وهي فترة انتقالية استمرت بإدارة عراقية وإشراف أمريكي مع وجود القوات الأمريكية التي وصل عددها إلى 170 ألف عسكري، وفيها تم توقيع اتفاقية أمنية عراقية- أمريكية العام 2008، وكان من المفترض إجراء استفتاء شعبي عليها حسبما نصّت، لكن الحكومة العراقية سوّفت هذا الأمر حتى تم انقضاء مدّتها نهاية العام 2011.
ولم تتمكّن القوى المؤيدة ” راقياً” لإبرام معاهدة جديدة أو الولايات المتحدة والرئيس بوش تحديداً من الوصول إلى صيغة تعاقد جديد، بحيث ينتقل “الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي”، وهكذا شهدت الفترة الجديدة نوعاً من الفتور وبرود العلاقة السياسية، ولاسيّما مع مجيء الرئيس باراك أوباما وبالأخص مع مطلع العام 2012 واستمرّ مثل هذا الضعف أو عدم الاكتراث حتى العام 2014.
أما الفترة الرابعة فهي بعد احتلال داعش للموصل في 10 يونيو (حزيران) العام 2014، وابتدأت مع ترشيح حيدر العبادي لرئاسة الوزراء، حيث استعاد الطرفان الرغبة في تعزيز العلاقة، ولاسيّما العسكرية والأمنية لما يجمعهما من أهداف في محاربة داعش والقضاء على الإرهاب. أما الفترة التي تلتها الخامسة فقد شهدت صعود الرئيس دونالد ترامب لرئاسة للبيت الأبيض (يناير/كانون الثاني /2017) وتميّزت بتطوّر مستوى التعاون في الجانب الأمني والعسكري والسياسي.
والسؤال الذي يواجه الباحث هو إلى أين تسير علاقات بغداد – واشنطن في ظل استمرار التخبّط العراقي في تحديد الأولويات؟ ويحتار المرء أحياناً من أين يبدأ؟ وعلى أي الطرق يسير؟ وإذا كان زيادة الإنتاج النفطي هو الأولوية لبغداد والحفاظ على الوضع القائم كي لا ينهار بسبب الأزمة المالية التي سبّبها انخفاض أسعار النفط والمجهود الحربي ضد داعش، دون أن ننسى الفساد المستشري في أجهزة الدولة ومفاصلها وهو الوجه الآخر الثاني لداعش. فماذا هي فاعلة بشأنه ونظام المحاصصة الطائفي – الإثني الذي يلهج الجميع بذمّه: هل لإعادة بناء وترميم البنى التحتية أو لزيادة التسليح أو لمحاربة الفساد أو لتحسين قطاع الخدمات، ولاسيّما الصحة والتعليم أو للقضاء على البطالة أو لحلّ الخلافات مع إقليم كردستان؟
وإذا كانت تلك جميعها تمثل أولويات وأهداف آنية ومتوسطة المدى، فمن أين ستبدأ بغداد ؟ وكيف ستتصرف كدولة؟ في إطار خضمٍّ من الصراعات الداخلية والإقليمية، خصوصاً بعد الأزمة الحادة مع إقليم كردستان بسبب الاستفتاء الكردي (25 سبتمبر/ أيلول/2017)، تلك التي لا تزال لم تجد لها حلولاً مقبولة بشأن المناطق المتنازع عليها وبالدرجة الأساسية “محافظة كركوك” وفقا للمادة 140 من الدستور، وقد يتطلب الأمر تعديلات دستورية ضرورية وأساسية وهي لا تزال مجمّدة منذ العام 2006 ولحدّ الآن.
ولكي تضع واشنطن لبغداد حساباً في اعتبارها ، فلا بدّ أن تكون بغداد موحدة في حركتها ومصدر قرارها ، إذْ لا يزال الكثير من الأطراف العراقية يتعامل مع الولايات المتحدة منفرداً، وأحياناً بما يتعارض مع قرار الحكومة وسياساتها ، وهي ظاهرة لا تضعف وحدة القرار العراقي فحسب، بل تربك أداءه في تحقيق أهداف السياسة الخارجية وفي التعامل مع المحيط العربي والإقليمي أيضاً وليس مع واشنطن فحسب. وإذا كانت بغداد وحواشيها لا تزال متخبّطة إزاء العلاقة مع واشنطن، فإن هذه الأخيرة لها استراتيجيتها النابعة من مصالحها وأهدافها.
والمتتبع يلحظ سعي واشنطن لإجراء الانتخابات في موعدها المعلن (15 أيار/مايو/2018) وتشجيع إقامة كتلة كبيرة، بعيدة عن تأثير النفوذ الإيراني، والأمر يحتاج إلى تحالفات جديدة شيعية – كردية – سنّية قريبة من واشنطن يُرجح أن يكون على رأسها رئيس الوزراء الحالي، ويمكن لها أن تحظى بدعم مادي ومعنوي لإعادة إعمار المناطق المتضرّرة وعودة النازحين إليها. وحسب قراءتنا الأولية فإن الخطوط العريضة لمثل هذا الاستنتاج هي :
1- القضاء على داعش واستكمال ملاحقته عسكرياً بالتعاون مع القوات العراقية وإبراز دور التحالف الدولي، والإبقاء على عدد القوات الأمريكية القتالية والخاصة في العراق، بحجة حماية الأراضي التي تم طرده منها وإفشال مخططاته بالعودة إليها والعمل على تعزيز سبل مكافحة الإرهاب الدولي من خلال تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في العراق.
2- تقليص النفوذ الإيراني بتطويقه ومنعه من التمدّد في العراق والسعي لإبعاد الحكومة العراقية من أن تكون تابعاً له أو تدور في فلكه، سواء ما له علاقة بامتداداته العربية في سوريا ولبنان واليمن والبحرين والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج، إضافة إلى العلاقة مع حماس وقطاع غزة ، وذلك انسجاماً مع أهداف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ككل.
3- تشجيع إقليم كردستان على البقاء ضمن “العراق الديمقراطي الفيدرالي”، وتعزيز أواصر الصداقة معه، خصوصاً بعد أن كانت واشنطن قد تحفظت إزاء خطوة الاستفتاء. وعلى الرغم من علاقة واشنطن مع بغداد والدولة العراقية ككل لما تشكّله من ثقل، فإنها في الوقت نفسه تريد تأكيد العلاقة الخصوصية مع الإقليم والتحالف المستمر مع الحركة الكردية.
4- إبقاء نقاط المراقبة الميدانية والجوية واستمرار الاستطلاعات الأمنية والاستخبارية، لإفشال المشروع الإيراني ومنعه من إيجاد ممرات بديلة وطرق برية أخرى لإدامة الاتصال بين طهران ودمشق عبر بغداد وصولاً إلى البحر المتوسط مروراً بالأراضي اللبنانية، ضمن محور “الهلال الشيعي”.