لو أحصينا عدد المرات التي استخدم فيها النظام الروسي الفيتو في مجلس الامن، وتعرفنا على مشاريع القرارات التي استخدمه ضدها لوجدنا أنه، فيها جميعا، يتحدى البشرية كلها، ويعارضها، ويضحي بسمعته وسمعة شعبه فقط لحماية حاكم سيء شرير ديكتاتور منبوذ من شعبه ومن البشرية جمعاء.فهو استخدم الفيتو اثنتي عشرة مرة فقط لمنع العدالة الدولية من معاقبة بشار الأسد لذي فاق جميع الجلادين الذين سبقوه في القتل الجماعي بالصواريخ والبراميل المتفجرة التي تسقطها طائراته الروسية على أحياء وقرى ومدن آهلة بمواطنين محاصرين لا حول لهم ولا قوة، ولا علاقة لهم بالسياسة لا من قريب ولا بعيد.
وفي كل مرة تستخدم فيها روسيا هذا الفيتو يستغرب كتابٌ ومحللون وخبراء ومنظماتٌ دولية متخصصة في مكافحة الإرهاب، وهيئاتٌ وشخصيات عالمية تناضل من أجل احترام حقوق الإنسان وتحريم استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين، ويحارون في تفسير إصرار الرئيس الروسي بوتين على هذه الدرجة من الوقاحة والصلافة والعناد.
ولكن حين استخدم، هو نفسُه، الغاز السام لقتل المعارض الروسي سيرغي سكريبال، مؤخرا، بطل عجبُ العالمُ، وفهمت البشرية أنه من فصيلة بشار الأسد ومعمر القذافي وكم جونغ أون وخامنئي وأردوغان وعمر البشير، ومن قبلِهم صدام حسين وكاسترو وسلوبودان ميلو سيفيتش وغيرهم كثيرين، وأنه يؤمن، مثلهم، بشرعية القتل الجماعي والغدر والاغتيال وترهيب الشعوب وتكنيم الأفواه وخنق الحريات. وفهِمَ العالم أيضا، في الوقت نفسه، سبب حماسه في الدفاع عن أشباهه الذين يستخدمون الغاز السام ضد المعارضين.
والمرة الأخيرة التي استخدم فيها الفيتو كانت ضد مشروع قرار متساهل جدا لا يقضي بشنق بشار الأسد لأنه استخدم الغاز السام ضد نساء وأطفال وشيخ في دوما، ولا بقتله بصاروخ أممي عابر للقارات، ولا بجيش من جيوش حكومات الأمم المتحدة، بل هو مشروع قرار بسيط وغير ملزم يدعو لإنشاء (آلية تحقيق حول استخدام الاسلحة الكيميائية في سوريا)، فقط لا غير.
وللعلم فإن اثنتي عشرة دولةً عضوا في مجلس الأمن الدولي وافقت على مشروع القرار، ولم تعارضه سوى روسيا وبوليفيا، وامتنعت الصين عن التصويت، على ما عودتنا عليه من زمن طويل.
وقد برر السفير الروسي لدى الامم المتحدة استخدام بلاده النقض ضد القرار قائلا: “إننا استخدمنا الفيتو للدفاع عن القانون الدولي، ولعدم زج مجلس الامن في مغامرات”.
إلى هنا ينتهي الحديث عن مواقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مجلس الأمن الدولي، وعن دوره التدميري الذي تجاوز كل الحدود المعقولة والمقبولة في سوريا، وعن جهوده العسكرية والمخابراتية والسياسية لدعم النظام الإيراني وتدخلاته الإرهابية التخريبية في سوريا والمنطقة، ومد كل نظام مارق وإرهابي ومطلوب للعدالة بالخبراء والأسلحة التقليدية وغير التقليدية، وحمايته من أية محاولة لإجباره على التخلي عن سياسات التحدي والتدخل في شؤون دول المنطقة. ففي هذا المجال لم يبق أمر صغير ولا كبير لم يُشبعه كتابٌ ومحللون وسياسيون عرب وعالميون كثيرون بحثا وتوثيقا، من أول وصول بوتين إلى السلطة وحتى اليوم.
ولكن جميع إدانات هؤلاء الكتاب والمحللين واستهجانهم واستغرابهم، كانت وما تزال، تتجه لشخص بوتين وحده، ولنشأته المخابراتية، وطبيعته التآمرية، ونزعاته الانتهازية، وتُحمله، وحده، مسؤولية مواقفه الانتهازية، وسياساته وحروبه غير العادلة، دون أي شخص آخر.
ولكن حين نتأمل بقاءه في سدة الرئاسة الحقيقية ربع قرن، ونتدبر فوزه الكاسح في انتخابات الرئاسة الأخيرة التي جرت في الثامن عشر من الشهر الماضي وحصوله فيها على ما يزيد على خمسة وسبعين في المئة من أصوات المُقترعين، فإننا نكون أمام مسألة خطيرة ودقيقة تحتاج إلى وقفة طويلة لتحليلها وتمحيصها، واستخلاص الحقيقة الصادمة التي تختفي وراءها.
فهذا يعني أن خمسة وسبعين في المئة من الشعب الروسي موافقة ومباركة وداعمة ومؤمنة بصواب ما فعله، وما يفعله، وما يخطط لفعله، رئيسُها بوتين، من أول تسلمه السلطة وحتى اليوم.
بعبارة أكثر وضوحا. إن مئة وعشرين مليونا من المواطنين الروس تؤيد حروب رئيسها، وتُحل له جرائم الإبادة التي يرتكبها في سوريا وفي غير سوريا من بلاد الله الواسعة، وتبارك احتضانه لحكامٍ فاسدين وقتلة ومجرمين مكروهين من شعوبهم ومن البشرية العاقلة العادلة، أدين بعضُهم بارتكاب حملات إبادة وجرائم ضد الإنسانية، في محاكم جنائية دولية وسُجن، أوبعضهم الآخر ما زال هاربا من وجه العدالة.
ويبدو أن ما جعل هذه الجماهير الروسية الواسعة تعشق رئيسها هي النعرة القومية العنصرية التي ترى أن سياسات بوتين، وإن كانت في أغلبها عدوانية وانتهازية، تعيد أمجاد روسيا القديمة، وتزيد مواردها الاقتصادية، وتعزز وجودها كدولة كبرى في عالم اليوم.
وهنا نأتي إلى خلاصة الكلام. إذن أين ذهبت مباديء الماركسية اللينينية التي ظل الشعب الروسي يتعلمها في المدارس وفي المصانع والمزارع عشرات السنين؟
وسؤال آخر. إن كانت الماركسية اللينينية، بكل تاريخها النضالي وبكل حروبها ومعاركها مع القوى الامبريالية والاستعمارية، كل تلك السنين، من أجل إنصاف الكادحين، وإقامة مجتمع الكفاية والعدل، وتحرير الإنسان من سطوة رأس المال، قد تبخرت ولم تترك أثرا يُذكر في عقل المواطن الروسي فلاديمير بوتين ولا في قلبه، ولا في مئة وعشرين مليونا من ناخبيه المتحمسين له، ألا يحق لنا أن نخشى من أن يتحول العالم إلى غابةٍ أرخصُ ما فيها دمُ الإنسان، ومن أن يرمي الإنسان، ذاته، بكل القيم السامية والشرائع والمباديء الإنسانية العظيمة التي تربى عليها قرونا طويلة في سلال المهملات، ويضع مكانَها الأنانية والهمجية والمصلحة الذاتية والعنف والإرهاب، والعياذ بالله؟؟.