جاسم عاصي قبل الخوض في متن الديوان( يزرعُ بهجاته) لابد من القول أن قصائده تتميّز بالقِصَر والكثافة ، ووحدة الصياغة . ناهيك ما مارسه في صياغة القصيدة عبر تضافر الأجناس في جنس الشعر . ومن مثل هذا الروي والسرد وبروز الصوت الفاعل في حواريات متواصلة ، سواء بين ثنائية أو صوت منفرد يخاطب على حد سواء الأنثى والشجر والسواقي . لا فرق عنده بين حيوات الوجود ، مازالت تعمل على تخصيب الحياة واستدامتها . لذا نجد ثمة شحنات أسطورية موّزعة في شعره . لكن الأهم في تقديم كهذا ، أن نبدأ بالعتبة( يزرع بهجاته) والزراعة هنا غرس ونمو وتواصل في الحياة . كذلك انبعاث متجددة في المواسم ، تماماً كما هي عودة الإله( تموز) في فصل بدء النمو والتفريع لكل كائنات الحقول والبساتين. فأسطورة الانبعاث كانت مدار لشعراء كثر في الشعرية العراقية ،و(عمّار المسعودي) واحد من ثلاثة توزعت قصائدهم لتشمل مفردات بيئتهم الريفية ببهجة الأب الذي يزرع بهجته خلال غرس الفسائل والأشجار الصغيرة ، ومنهم( صاحب الشاهر ، سعد السمرمد) ضمن هذا الكتاب . إن العتبة ( يزرع بهجاته) حققتها قصيدة بهذا العنوان . ففي مفتتح القصيدة ، يكون هم التدوين يأخذ بالأولوية ، فهو يستثمر صيغة الشعر قصد التوليد على الرغم من قِصَر الأبيات ، غير أن ثراء المعنى البعيد الغور ، ما يُحقق الاسترسال للقصيدة ، فحين يذكر: { أدّون حكاياتهم ؛ لأنساها/أضيع في شوارعهم/لأصل إليّ} إنما يحاول أن يؤصل المعنى بكثافة الجمل واختزالها . فنسيان الحكاية ، يعني فسح المجال لحكايات أُخر ، والضياع في الشوارع ؛ يعني الذوبان في الأصل ، بدليل أنه يدرك ذاته عبر ادراك غيره . وهي بلاغة متوفرة على قناعاتها الشعرية . وحين تسترسل القصيدة الفاتحة وإن جاءت في الثلث الأخير من الديوان ، فقد أدركت وظيفة الإنسان من مثل إنسان الحقول والبساتين ، الذي نهل من إيديولوجية الأرض ، ورضع من ثدي أساطيرها ورموزها ، لذا نجده يُلخص وظيفته الكبير في بضع أبيات مركزة: { أنا ولدٌ من اخضرار/عيد أيَّةَ ثمرةٍ إلى /حضن شجرتها أيَّة خوصة إلى نخلتها/ أيّض طيرٍ إلى عشّه } هذا التمهيد وما يليه من مقاطع ـ توصله إلى مركز القصد والمرمى ، الذي يتعلق أساساً بتشكله الجيني والمعرفي المكتسب ضمن بيئته ( كم أحتاج ُ لأقولَ/ لكم /أنا مجرد زارع بهجات }. هذه العتبة تقود إلى متن شعري زخر بالقصائد القصار على غير عادة قصائد الشاعر. كما أنه عمق الحس الصوفي على طريقته وفهمه البيئي والجيني للتصوّف ،عبر علاقته الحسية بالأشياء المحيطة ، وولعه في حب الآخر .. وعلاقته مع العطش الذي يشكو منه الشاعر ويكرره بصيغ مختلفة ، لكنه في النتيجة ، يرمز إلى عطش معرفي يخص طبيعة الأشياء وكيفية توليد معانيها . فالعطش مقابل النهر ، والعكس وارد ، إنما يشكّل بهذا معادلاً موضوعياً وفنياً بتداولها عبرهذه الثنائية . من النماذج الشعرية التي تنحو إلى الأسطرة ،آو خلق أجواء سحرية ، لا تبتعد عن شعر الحِكمة كثيراً ، بل هي خلاصة له . فالشاعر يحاول أن يصوغ ابياته وفق منظور بيئي ، متخذاً من سحر الواقع بمفرداته ،نمطاً لكشف الجمالية الأسطورية فيها . فهو شاعر كأقرانه مسكون بالأسطورة التي تُخلّقها أشياؤه المرئية ، وخفايا الحس الصوفي الذي يقابل به الموجودات في الطبيعة الريفية الزاخرة: { إن تمتعت بخضرتي/فلا تحدّثن أحداً عنها/فإن تحدثت وبحت ببعض أسرارها/سكنتك صحراك وهجرتك قُراك/ لا تزدْ طمعاً أو ولهاً بها /لا تدفعْك رغباتك سبر أغوارها/ فإن فعلت فلست منّي ولا من بقية أثماري } هذا النفس الشعري لا يقود إلا إلى كشف الخاصية الذاتية التي تصاغ من سحرية الواقع ، حيث تكون الحِكمة على لسان حيوات البيئة. وبهذا تكون الأولى في صياغة مسارها المستنبت من الأسطورة ، تماماً كما هو التعامل مع مفردات الطبيعة في الشعر السومري . فمن حيواتها تُخلق الرموز ، ومن تأثيراتها السحرية خُلقت رموز الآلهة ووظائفها في الحياة .