لا اتذكر جيدا أول كتاب حصلت عليه، ولا اول كتاب قرأته لكنني اتذكر جيدا سعادتي بدفع مبلغه من مدخرات حرصت على تنميتها لشراء الكتب وليس اي شيء اخر.. تراصفت الكتب تباعا في رف كتبي المدرسية وزاحمتها ، وكانت سعادتي بزيارة الاقارب الذين لديهم مكتبة في بيوتهم اكبر من فرحي بأية متعة اخرى.. وبقي الكتاب الذي اشتريه أعظم شأنا من اي كتاب احصل عليه “مجانا ” ممن هم حولي، ربما لأنه يمثل حالة مقايضة مع ما اود انفاقه وما لا اريد التفريط فيه.في مكتبتي رفوف متعددة يحتل ” المجاني” منها حصة واضحة تجعلني اتساءل لماذا تم تكريس ظاهرة التوزيع المجاني للكتاب العراقي بطريقة تجعل المتلقي لا يسعى للبحث عنه ولا يبذل جهدا للسؤال عن مكانه لثقته بانه سيحصل عليه قريبا من مؤلفه الذي يدفع اموالا لطباعته ووقتا لمتابعته وجهدا لتوزيعه مجانا باقتناع كامل.كلنا نفعل هذا والسبب غياب التقاليد الادبية الحقيقية التي تحافظ على هيبة الكتاب وتجعل الحصول عليه امرا سهلا لا يكلف غير زمن التواجد والتدافع في حفلات توقيع الكتب التي تجري دوريا في التجمعات الثقافية والادبية واخرها معرض الكتاب في بغداد.لم يهدأ صوت الميكرفون وهو يعلن عن جلسات توقيع الكتب في اغلب دور النشر المحلية ، وغالبا ما يحمل الزوار حقائب تمت تهيئتها مسبقا لتمتلأ بإصدارات قد لا يكلف نفسه اصلا لقراءتها او الاطلاع على منجز المؤلف الذي لا يعرفه اصلا وليس من متابعيه ولا من قرائه، وكل ما في الامر هو تطبيق لفكرة الاقتناء المجاني التي يرحب بها الاغلب الاعم وقد يعزف عنها من يعرف قيمة الكتاب وعنوانه ويقبل بدفع مبلغ ليس بالقليل للحصول عليه .الظاهرة المحلية لم يقابلها ذات الحال عربيا فلم نشهد حفل توقيع مجاني لكتاب عربي واذا ما تواجد المؤلف للتوقيع فأن على المقتني ان يدفع كلفته للحصول على توقيع الكاتب والكتاب وهو ما يعزز ثقة المؤلف بمنجزه واحترام الجهد الابداعي الذي استطاع المنافسة وحاز على قراء جادين يعرفون ما يختارون من عناوين مميزة تليق بمكتباتهم ان تضمها دونا عن العناوين المجانية التي سعت هي اليهم لتقدم نفسها بطريقة تقترب من الاهمال الادبي للكاتب وللكتاب اكثر مما هي اهتمام وحرص من الاثنين للاخر الذي تكتمل معه حلقة الفكرة من التأليف.ستستمر حفلات التوقيع المجانية ولن تتوقف والمطلوب اعادة رسم خارطة طريق تحقق الهيبة للتأليف ولعقل المبدع ، ولا يسبغ على حفلات التوقيع طابع المجاملة التي قد تجبر المؤلف على اهداء كتابه بلا مقابل ولكنها في ذات الوقت ستتسبب في اهمال الكتاب واغفال حقه من الاهتمام الذي يستحقه وهو يهدي جهده العقلي والتنويري والتثقيفي لمجتمع بحاجة اليوم اكثر من اي زمن مضى الى عقل المثقف ومنهجه المجتمعي المميز.