لم تعد الثقافة تقتصر على القطاع الفكري فحسب بل على القطاعين الاجتماعي والمادي . اذ ان كل واحد منهم مكمل للأخر , وهذه القطاعات تفضي الى خصوصية ثقافة كل مجتمع , وقد اتفق علماء الانثروبولوجيا على ان هذه الخصوصية لا تنحصر في المجتمعات البدائية بل اضحت تنسجم مع كل المجتمعات المتقدمة والبدائية . وعلى الرغم من تعدد تعاريف الثقافة الذي تجاوز الـ 150 تعريف غير ان تعريف العلامة الالماني ادوارد تايلور ظل شاخصا , حتى ان منظمة اليونسكو اصدرت تعريفا للثقافة يقترب من تعريفه بالرغم من الفارق الزمني الذي يتعدى المئة عام , فقد حددت الثقافة بانها مجموعة مميزة من النواحي الدينية والعقلية والمادية والعاطفية للمجتمع او لجماعة من الناس , ولذلك فهي تشمل بالإضافة للفن والادب اسلوب الحياة وطرق المعيشة معا , ونظم القيم والعادات والعقائد .وبذلك فأن الثقافة هي طريقة متعددة للحياة السائدة في مجتمع ما في الجوانب المادية والفكرية والروحية والاجتماعية التي يتفق عليها الجماعة لأسباب شتى , وتغدو سلوكا محددا لهم , وفضاءا ينماز به ذلك الشعب عن الشعوب الاخرى , بالرغم من تداخل الثقافات والافكار والانتقال السريع للمعلومات والاحداث بفضل التطور التكنلوجي لوسائل الاتصال , حتى اصبح العالم شاشة .
غير ان ذلك التطور وتأثير كل ثقافة بالأخرى لم يدحر خصوصية ثقافة المجتمعات , سيما شبه المنغلقة منها . فقد ظلت سائدة فيها بقوة العادات والتقاليد بوصفها خصوصية لثقافة ذلك المجتمع ومن تلك العادات التي ماتزال تشكل جزءا من القيم الاجتماعية الموروثة في عقول القسم الاكبر من ابناء مجتمعنا العراقي , وفيها من السلبية ما يدفعنا الى ضرورة الانعتاق منها ومغادرتها لما لها من اثار عميقة على الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يكتنف الانسان في حياته العملية .اذ ان التغييرات الحضارية التي طرأت على المجتمع والتحولات الكبيرة التي حدثت في مجالات الحياة كافة تقتضي ضرورة الانصياع الى منطق العقل وذبح الافكار التي من شأنها ان تعود بنا القهقري .
ومن هذه العادات والتقاليد الموروثة هي المبالغة في اقامة الولائم في المناسبات الاجتماعية . وهي من بقايا قرون الانحطاط التي اصابت المجتمع العراقي ابان الاحتلال العثماني والبريطاني , وكذلك من قيم البداوة التي كانت سائدة ومازالت قائمة لغاية اليوم , ويقينا ان هذه العادات والتقاليد التي اضحت جزءا واضحا ورئيسا في حياتنا تتناقض او لا تلتقي مع الحضارة وروح العصر الذي نعيشه . وبالرغم من ان الاسلام سبق الحضارة الغربية في مفهوم العطاء وبذل المال الى الفقراء والمساكين وابناء السبيل , بيد اننا مازلنا نتمسك بهذه السلوكيات التي غدت جزءا من ثقافة المجتمع , والتي يرى علماء الاجتماع انها تهدف الى الوجاهة وليس الى الكرم مثلما يؤكد الدكتور علي الوردي اذ يرى ان بذل الطعام جاء لأثبات ان الرجل المضياف يريد ان يثبت انه كريم مضياف لايبالي ببذل المال من اجل الضيوف بلا حدود , وهنا يجب ان نشير الى ان بذل الطعام بهذه الصورة ينسجم مع طبيعة البداوة ولكنه لا ينسجم مع طبيعة الحضارة . فالبداوة والحضارة كما قال ابن خلدون متناقضتان في كثير من قيمهما فما ينسجم مع احدهما قد لا ينسجم مع الاخرى .لذلك نرى ان جهودا يجب ان تبذل بهدف التغلب على هذه العادات من خلال وسائل الاعلام وخطب رجال الدين والوجهاء والشيوخ وتوظيف كل العوامل التي من شأنها ان تؤثر على الناس وبالذات القاطنين في الريف بحكم انتشارها وتمسكهم بها اكثر من سكان المدن . اذ انها مرفوضة من وجهة نظر الاسلام بوصفها جزءا من التبذير وكذلك من وجهة النظر الحضارية والمدينية .