خلال أسفاري، تأكّد لي أنّ البلدان التي عانت شعوبها وتعاني من ظروف تاريخية صعبة: جوع، طغيان، كوارث، نجد فيها سلالاتٍ الطيبة والحكمة من صفاتها الدائمة. وهذه السلالات معزولة عن المجرى الكبير الراكض للعيش والكسب وما بين ذلكما من تنافس وخداع. رأيت ذلك في القرى الأوكرانية البعيدة حيث النسوة العجائز يفضن حناناً ووداعة مألومة، والشيوخ كبار السن الذين أبقتهم الحروب والامتهان والخبز المسموم، أبقتهم شهوداً على ما كان. هؤلاء هم الأسرع في الأريحية والرغبة في العون واللطف بالغريب ومن هو في حاجة أو حرج.
اليوم، في الهند، وفي هذه المنطقة من “أورنجاباد”، شوقني صديق هندي لأرى ما يسمونه “سلطان الأعشاب”. يقولون يشفي الفقراء، أو هو ما قد أوجده الفقراء لدفع الأمراض والموت عنهم. أسطورة هو من عديد الأساطير.
كان الطريق طينياً والوحول تغطي جوانبه وإن سمحت بالمسير. والناس لا مهمومين ولا فرحين، يمشون. هو ذاك الحال وهم هكذا يعيشون. بقيَ أن يتمكنوا من دفع الضر والمضي بسلام.
هناك وأمام بيت يبدو أكبر، أهم، من البيوت الفقيرة جواره وخلفه، كانت دكّة أو عتبة مرتفعة ربما لتحمي البيت من سيل و طفح المطر. على هذه تمدد ذلك العجوز يبدو فاقد الوعي لولا أنّه ينقلب على أحد جانبيه وبعد دقائق يعود متمدداً على قفاه كمن يعاني أو يتعذب.
حين رأيته كان نائماً على قفاه، وساقاه الذابلتان تمتدان شبه ميتتين وكما لو كانتا ليستا له وهو في حال زري، شبه ميت، حتى بدا بعض من أعضائه الجنسية. وتدلت جانباً واحدة من خصيتيه، وشعره مشعث كما عقب معركة أو عاصفة، فهو ملقى هناك بالكاد يرى وبالكاد يتنفس. لا أخفيكم أنّي شعرت بخجل كبير ممّا في الأرض من ناس بهذا البؤس وهذا الدمار في الحياة. شعرت بمسؤولية عن حال يعلم الجميع أنّي غير مسؤول عنها. لكن المنظر يمس كل الحواس ويثلم سلامها وتحس بإهانة مسّتك وأنت ترى!.وقفت بوجه ملتم أنظر له بين ازعاج فاجع وبين ألم وتعاطف. انقلب على جانبه الأيمن فصار وجهه أمامنا. لم يكن شيخاً هرماً ولكنه جاوز الستين ومع سنين البؤس والتعاسة البشريتين، تراه في السبعين أو أكثر وتعلم من حاله أنّه قريب من الموت.
هذا المشهد يشعرنا ببؤس آلاف البشر أمثاله في العالم وفي أحوال شتى: على الأرصفة، في المحطات والانفاق، في المشافي الفقيرة، وعند أبواب المعابد وفيها. وهذا المشهد يهيّئ لنا فرصة موجعة للتفكير بعظمة هؤلاء على كشف ما في الحياة من عيوب وكم هي معاناة الناس. هم نماذج للعيان، للتثبّت، للفضح، لإحراجنا! نحن غير مسؤولين، نعم، ولكننا بشر وهم منا. وما كانت الغفلة أو اللامبالاة منا إلّا مظاهر وعي إنساني منقوص، وأخلاقية لم تكتمل، تزداد نقصانا وإفضاحاً إذا نظرنا وسرنا من دون فعل أو قول!
ونحن ننظر له، حولي شخصان وصبي بثياب خَلِقة أقرب لممر السيارات والعربات منا. هو أيضاً ينظر ولكن من بعد كما يخاف أن يدنو أكثر.
أحد الواقفين معي، فتح كيساً يحمله وأخرج كعكة مستديرة طرية مثل رغيف “عيش” ممتلئ وقدمها للرجل الطريح. يبدو أنّ الرجل الطريح كان جائعاً، فحرك وهو نائم يده فلم يستطع إلّا أن يسحبها قليلاً وفلتت من يدهِ الخاوية.
الرجل المتفضل استعادها، قسمها نصفين وأخذ من أحد النصفين قِطَعاً وأراد يطعمه. أدنى واحدة ليدخلها في فمه، لكن ذلك لم يستطع بلعها، فظل مُطعِمه صامتاً لا يدري ما يفعل.
هم، إيماناً، أو خداعاً، أو اجتهاداً تسويفياً، يفسرون الظاهرة بأن هذا وأمثاله يؤمنون بالوصول الى الدرجات الإيمانية العليا عبر الجوع والقذارة والبؤس، يتحملونها لينتقلوا وليصلوا الى النقاء. أنا لست الآن في مناسبة للوقوف عند هذه الأفكار فما أزهدني بها وما
أيقظ روحي وحواسي كلها، أني رأيت العجوز المتعب النائم، بؤساً وجوعاً وانقطاعاً، على العتبة، رأيته يومئ بصعوبة، يحاول ينادي، وليست إلّا شفتاه تتحركان ليشير للصبي الهندي الفقير الواقف قريباً منا، ليعطيه نصف الكعكة الباقي قرب وجهه! وهو يجهد يتعذب ليقول، لمحت لمعةً في عينيه كمن سيبكي، كمن أول مرةً يرى!
كل التعاسة، كل البؤس، كل ما هو فيه من حال، ما استطاعت تلغي الروح الإنساني فيه. هي الروح التي تبقي الهند هنداً وتبقي الحياة على الأرض حياةً. تلك اللمعة، بعد كل متاعب البشر وأوجاعهم، هي التي سوف تبقى!.