التاسع من أبريل 2003 ليس حدثا عسكريا وسياسيا عابرا في حياة شعب العراق، بل يحمل دلالات كثيرة. ففي هذا التاريخ سقطت دولة العراق الحديثة وتم اختطاف بغداد على يد المغول الجدد في واشنطن وطهران، وما زالت أسيرة لنظام الولي الفقيه المتخلف الذي يحمل دوافع المغول ذاتها في الحقد التاريخي على العرب.
سقوط بغداد العسكري عام 2003 يعيد للذاكرة نهاية دولة الخلافة الإسلامية العباسية على يد المغول عام 1258 ميلاديا، لتشابه الدوافع والأهداف رغم المسافة الزمنية بين التاريخين، واختلاف هوية المحتلين تبعا للزمان. فقد كانت عيون قادة المغول على الدولة العربية وامتداداتها في آسيا والشرق، وقد تملكهم طغيان القوة والهمجية والحقد على العرب فاجتاحوا بغداد عاصمة الدولة العربية الإسلامية.
الهدف التدميري كان واحدا، فقد حرق القائد المغولي هولاكو بغداد وقتل أكثر من مليون إنسان في مقدمتهم العلماء والفلاسفة وموروثهم من عشرات الآلاف من الكتب التي رميت في نهر دجلة، مثلما نفذه المحتلون الأميركان خلال الاجتياح من قصف جميع مقومات الحياة بما فيها الكهرباء والماء والصحة، وقتل أبرز علماء الفيزياء والكيمياء وقادة الجيش والمواطنين، ونهب المتاحف والبنوك الذي مهّد للنهب المنظّم الذي نفذته مافيات الأحزاب الموالية لإيران في ما بعد العام 2003.
التشابه الأكثر إيلاما بين الزمنين المتباعدين استخدام أدلاء الخيانة من قبل المغول وأبرزهم رئيس ديوان الخلافة الوزير، مؤيدالدين العلقمي، الذي كشف للقائد المغولي هولاكو مكامن الضعف السياسي والعسكري في الدولة وسهّل له الطريق. ذات الخيانة والعمالة تحققت مع المحتلين الأميركان قبيل اجتياحهم، حيث قام عدد من المأجورين العراقيين بتسويق أكذوبة “أسلحة الدمار الشامل” في الأوساط الدولية إلى جانب عملاء الداخل ورعيل الجواسيس، حيث وزعت عليهم الآلاف من أجهزة تلفونات “الثريا” كأدلاء لتدمير المواقع الاستراتيجية في الضربات الجوية على بغداد خاصة. هؤلاء وغيرهم اليوم يتبجحون بمعاداة أميركا لا لسبب سوى لأن طهران تريد ذلك، فالخيانة واحدة وإن تعددت أشكالها.
المغول الذين استباحوا بغداد عام 1258 هم أنفسهم الذين اختطفوها عام 2003 مع تبدل العناوين والأسماء. القوات الأميركية اجتاحت العراق وأعلنت احتلاله يوم برقعت وجه تمثال صدام حسين بالعلم الأميركي ببغداد. عرب العراق قاوموا الاحتلال بالسلاح وقوبلوا بالقتل والاعتقال والتغييب تحت تهمة الإرهاب باشتراك وتواطؤ بين المحتل الأميركي والحرس الثوري الإيراني والمنظمات الشيعية الوافدة، بعد تنفيذها فتوى مرجعيتهم بعدم مقاومته عسكريا، لاستكمال صفقة تسليمهم السلطة مدنيا ثم اختطاف بغداد من قبل نظام ولي الفقيه الإيراني.
قبل انسحاب القوات الأميركية من العراق عام 2011 كانت السياسة الأولى المعادية لشعب العراق التي نفذتها هي إشاعة الفوضى بعد حل الجيش العراقي ومؤسساته الأمنية لتسهيل انتهاكات حقوق الإنسان خصوصا في مناطق المقاومة المسلحة مثل الفلوجة وجرف الصخر وبيجي والمدائن ومناطق أخرى، بالإضافة إلى جرائم الميليشيات والجماعات المتطرفة التي ارتكبت أبشع المجازر ما بين 2005 و2014 وتمت تغذيتها بالخطابات الطائفية لرئيسي الوزراء إبراهيم الجعفري ونوري المالكي.
فرق الموت التي أسستها وكالة المخابرات الأميركية من خلال خبرتها في أميركا اللاتينية لبناء قواعد تحتية لحرب طائفية أرادتها الولايات المتحدة للعراق تسلمها في ما بعد وكلاء طهران من خلال منظماتهم التي دخلت العراق مثل بدر وثأر الله والجناح العسكري لحزب الدعوة إلى جانب جيش المهدي، بإدارة وتنسيق الحرس الثوري الإيراني الذي أسس له في الأيام الأولى قواعد في كربلاء والبصرة. وفضائح المثقاب في تعذيب وقتل معتقلي وزارة الداخلية معروفة، ثم تابعت فرق الموت تنفيذ مسلسل القتل والتعذيب تحت قيادة الجيل الثاني من الميليشيات المسلحة التي أصبحت لديها مئات المعتقلات.
الجانب الأخطر في البرنامج الطائفي الفوضوي الذي زرعه المحتلون الأميركان ونفذته أدوات إيران في العراق بعد استكمال تصفية القوى البشرية المتمثلة بالنخب العلمية مثلما فعل هولاكو ببغداد هو تدمير جميع مرتكزات البنى التحتية، فأغلقت وفككت المصانع العسكرية والمدنية في العراق وقامت بتهريبها إلى إيران وبعلم المحتل الأميركي.
حكايات مسلسل استباحة العراق وعاصمته بغداد كثيرة ومؤلمة تمت بشراكة أميركية إيرانية، ثم بانفراد إيراني. اقتصاديا تم تدمير ونهب ثرواته منذ اللحظات الأولى للاحتلال، نتذكر تصريحات الأخوين محمد وعبدالعزيز الحكيم اللذين طالبا بتعويض العراق للنظام الإيراني عن خسائره في الحرب العراقية الإيرانية التي تبلغ 200 مليار دولار، مع الاحتفاظ بقيم الغنائم الخاصة بالطائرات العراقية والمدنية التي أودعها العراق أمانة في إيران عام 1991.
كذلك يتذكر الكثيرون حكاية الكنز البالغ 20 مليار دولار الذي تحفظت عليه حكومة واشنطن في عهد جورج بوش الابن من مبيعات العراق السابقة في إطار برنامج النفط مقابل الغذاء، ثم حولته إلى بغداد بعد عام 2003، ولم يعرف مصيره لعشر سنوات حتى كشف المحقق الأميركي ستيوارت باون عام 2014 عن نقل مليارات الدولارات من بغداد إلى لبنان وتم حفظها نقدا في منطقة بيروت الخاضعة لحزب الله. هذه الحكاية ليست بعيدة في الجوهر عن قصة قتل الزعيم الشيعي أحمد الجلبي بالسم في الثالث من نوفمبر عام 2015، بعد تهديده بنشر ملفات سرقة ما بين 360 إلى 600 مليون دولار.
الاختلافات التي تحصل بين الأحزاب وميليشياتها لا تتعلق بالسياسة، بل بنسب الحصص بنهب مليارات الدولارات في مراكز الوزارات وفي موارد الموانئ والمنافذ الحدودية، وقبول رئيس الوزراء “الشيعي” من عدمه مرتبط بالدرجة الأساس بمدى غض نظره عن مسلسل النهب.
الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها الولايات المتحدة في احتلالها للعراق هي في تسليمها مفتاح بغداد لطهران؛ سمحت لها لثماني سنوات بإرساء قواعد مشروعها الطائفي بإشاعة الكراهية والحقد والثأر والتغيير الديموغرافي تحت أوهام أن العرب السنة يريدون إزاحة نظام الحكم وإبعاد المجتمع العراقي عن المطالبة بحقوقه، عن طريق إلهاء فئات كثيرة منه باحتراب طائفي مزيّف. لكن انتفاضة الشعب في الأول من أكتوبر 2019 رغم التجميد الحالي لتحركاتها بسبب تفشي فايروس كورونا هي القوة الهائلة التي ستعيد بغداد من اختطافها.