كل من يرقب الأداء التشكيلي في العراق يعترف أنه أحد أبرز التفاعلات الفنية والثقافية عضوية وانفعالاً بالحدث العراقي اليومي. لا يجري الحديث هنا عن تمايز مستوى الفن التشكيلي العراقي وحمولاته الثقافية منذ بواكيره، ولا عن قدرته على الالتحاق بحلقات الفنون البصرية العالمية، فهذه الميزة محتسبة لوعي الفنان العراقي بجدارة سابقة، لكن الحديث الان يندرج ضمن رصد الظاهرة التشكيلية باعتبارها ردّاً جمالياً منفعلاً وفائق الاستجابة للجرح الوطني والإنساني.
منذ السبي الايزيدي، وفاجعة سبايكر، والتفجيرات الدامية في الكرادة، وثّق بحدس فريد هؤلاء الفنانون تلك المفارق الوجودية التي استشرفت أعمالهم الفريدة هولها الغائر الذي لن يسمح للحياة أن تعود كما عهدها وعينا السابق. لم يقتصر هذا التفاعل لدى هؤلاء الصناع المهرة على التأثر بما هو مأساوي بلا شك، إنما تناولوا غير مرة ما هو مشترك في الثورة والإصلاح وعاندوا عبر أعمالهم تدوير الفساد ونقدوا صنّاع الزيف والخراب بذات القدر الذي لوّنوا فيه اللحظات المشرقة من الحياة بموشورات من يمتلك عيناً نابضة وعارفة ومحروسة بالوعي.
في أيام محنة الإنسانية الحاضرة، حيث الوباء يجتاح العالم ويسرق المدن من قاطنيها والحضارة من فعلها الصاخب، رصدتُ انبعاثات ملونة لبعض من فناني العراق التشكيليين، كان ابرزها لوحة للفنان وضّاح مهدي ادرجها تحت عنوان ” سوف تعود الحياة” موظفاً رمز الطفولة المجتمعة للعب والمرح بطاقة لونية تحمل شحنات ذات طابع يوحي بالدوران والحركة، فرأيت ان ازور عزلته المنتجة هذه الأيام، بالإضافة الى فنانين تشكيليين آخرين برزا في مناسبات حاضرة وسابقة باسهاماتهما المواكبة للحدث العراقي وهما محمد مسيّر و تحسين الزيدي.
يقول الفنان وضاح مهدي عن عمله المشار اليه وانا جالس في البيت حيث العزلة الاجبارية للاختباء من عدو خفي وشرس وعدد ضحاياه الصادم. هذا العدو الذي جعل العالم كله يتشارك بعزلة كونية توقفت فيها الحياة، اتى على مخيلتي شريط ذكريات منذ كنت صغيراً حيث اول حرب تتفتح عيني عليها حرب الثماني سنوات لقد مرت احداث هذه الحرب بكثير من الخوف والقلق وصور القتلى التي لا تذهب من مخيلتي الى الان، وتأتي الاحداث والحروب متزامنة كلما تقدم بي العمر. هذه الحروب التي لا اعرف هل نحن محظوظون ام غير محظوظين حين نجونا من نيرانها. حين مرّ هذا الشريط من الذكريات القاسية والمؤلمة ومع هذا الحظر الذي نعيشه يتبادر لي سؤال: هل سوف تعود الحياة؟ سؤال انا لا اعرف اجابته، لكني اهرب دائماً الى وجوه الاطفال لأبحث عن الاجابة لانني على ثقة تامة بصدق مشاعرهم وسوف اسألهم وسوف ارى الاجابة من خلال عيونهم وضحكاتهم.
نعم سوف تعود الحياة. وعن كون العمل الفني في راهننا العراقي يعدّ وثيقة لا تختلف عن نظيراتها السردية الأخرى، بل قد تمتلك زخماً تعبيرياً حوارياً اكثر تأثيراً في بعض التقديرات، يقول الفنان تحسين الزيدي: لكل فئة او شريحة في المجتمع لغتها في التعبير عن ما يجول في خاطرها من حالات انسانية ووجدانية وغيرها، والفنان التشكيلي يمتلك وسيلته او اداته الخاصة لترجمة ما يشاهده ويعيشه وهو اللون كوسيلة للتعبير وايضاً يعتبر لغته الخاصة، مستعيناً بقابليته على التأثر بكل ما يدور حوله وايضاً قابليته على خزن ما يمر به في ذاكرته واستحضار هذه المشاهد والذاكرة في اللوحة ومن خلالها يخاطب نفسه من جهة والمتلقي او المجتمع من جهة اخرى لكي يكون هذا العمل الفني اداة تفاعلية وحوارية، من الممكن ان يصل من خلالها لمعالجة سلبيات معينة او لفت الانظار لمفاصل مهمة في الحياة.
برأيي من هنا تأتي اهمية الفن التشكيلي اسوة بالفنون الاخرى وايضاً الادب والشعر.. وفي الجانب الاخر اللوحة الفنية تعتبر وثيقة مهمة لتوثيق ما يمر به المجتمع ضمن فترة زمنية محددة ويجب ان توثق هذة الفترة الحرجة والحساسة من تاريخ العالم بشكل عام والعراق بشكل خاص وهي وسيلة للفت الانظار لما يجري لحالات انسانية تكاد تكون فردية ولكنها تمثل شرائح واسعة من المجتمع. ويذهب الفنان التشكيلي محمد مسيّر الى ان الأثر الفني يحمل مسؤولية تاريخية باعتباره شاهداً جمالياً على الاحداث الكبرى إنسانياً ووطنياً، حيث يقول: ان الفنان مسؤول أمام التأريخ عن ما يجري من أحداث معاصرة لحياته، وكما حدث لما فعله بيكاسو حين وثق أحداث الجورنيكا أو ما سجله غويا عن الاعدامات وما فعله جواد سليم من نصب الحرية كل تلك الاعمال العظيمة كانت بمثابة وثائق وشواهد ظلت طوال الزمن تحكي لنا أحداثاً مهمة، حصلت بوقت ما، شواهد لاحداث ظلت بذاكرة الزمن، وللفن وظيفة التوثيق باعتباره العين الثاقبة والمراقبة للاحداث .. بالاضافة لما له من أهمية في تثقيف المجتمع بصرياً والارتقاء بذائقته.. تلك المسؤولية تحصل باعتبار الفنان هو عين المجتمع المراقبة والتي تصوغ وتسجل الاحداث بقنوات ابداعية مميزة. ما يحصل بالعراق من أحداث متسارعة يصعب تدوينها بشكل ابداعي، الا عند التشكيليين الذين عادة ما يكونون مرافقين لتلك الاحداث ويتفاعلون معها بشكل مستمر.