كانت مدة التسجيل الصوتي المسرب لوزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف (3) ساعات، كشف فيه الدور المخزي لوزارة الخارجية وتسخيرها كليا لخدمة الحرس الثوري الإيراني، وتحكم المقبور الجنرال سليماني بمقدرات وزارة الخارجية. ذكر ظريف للخبير الإقتصادي (سعيد ليلاز) الموالي للنظام الحاكم في مقابلة جرت في شهر آذار 2021 وتعتبر من أسرار الدولة ولا يجوز نشرها” ان معظم هيكل وزارة الخارجية الايرانية، شأن أمني، وانه لم يتمكن في مسيرته المهنية من القول لسليماني أن يفعل شيئا معينا، لكي يستغله في الدبلوماسية، وان سليماني كان يفرض شروطه عند ذهابي إلى أي تفاوض مع الآخرين، بشأن قضايا معينة مثل سوريا”. ويقصد ظريف عندما طلب من سليماني عدم استخدام طائرات الخطوط الجوية الإيرانية لنقل السلاح والمرتزقة الى سوريا، حيث تعرضت الخطوط الجوية الايرانية الى العقوبات الدولية، بسبب رفض سليماني تنفيذ فكرة ظريف. سيما ان وزير الخارجية الامريكي (جون كيري) قال لظريف ان حركة الطيران الايراني لسوريا زادت بمعدل ستة أضعاف عن السابق، وعندما حقق ظريف في المسألة تبين ان الجنرال سليماني هو من أمر بتلك الرحلات.
اعترف ظريف ” كان سليماني يملي عليٌ القرارات، ويرفض طلباتي”. وانه كان يجهل زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لإيران عام 2019، وعلى أثرها قدم إستقالته، حيث قام بدور الدبلوماسي الأول الجنرال سليماني عوضا عن ظريف. وعلق ظريف عن إستهداف الحرس الثوري للطائرة الاوكرانية المدنية، قائلا” ان المسؤولين العسكريين كانوا على علم بإستهداف الطائرة، ولم يخبروني بالحقيقة، بل طلبوا مني نفي الخبر عبر تويتر”. وأشار ايضا الى رحلة سليماني عام 2015 الى موسكو كانت بهدف القضاء على الإتفاق النووي، حيت استدعي سليماني الى روسيا، دون علم وتنسيق مع وزارة الخارجية الايرانية.
ذكرت (لوفيغارو الفرنسية)، أنه تم تسريب نسخة من التسجيل الصوتي من قبل محطة تلفزيون إيران الدولية المقربة من المعارضة ومقرها لندن، قبل ان تتداوله صحيفة (نيويورك تايمز). وذكرت الصحيفة ” ليس من بالضرورة أن المستفيد هم أعداء جواد ظريف من المحافظين. فالخطوة تشوش على الخطاب الإيراني الذي يقوده نائب وزير الخارجية عباس عراقجي في مفاوضات فيينا مع القوى العظمى حول الاتفاق النووي الإيراني، لكن الحقيقة أن الجميع يعلم أنه ليس الدبلوماسيين الإيرانيين من يقررون في النهاية ، بل المرشد علي خامنئي. وقد وافق الأخير على المفاوضات في فيينا”. مع التلميح ان التسريب ربما كان لتصفية الحسابات بين التيارين الإصلاحي لرئيس الحكومة ووزير خارجيته، والتيار المتشدد الذي يقوده الحرس الثوري الايراني والخامنئي، سيما ان الخامنئي في وضح صحي سيء، ويحاول أن يثبت أقدام التيار المتشدد في السلطة قبل موته.
زعم النظام الايراني أن التسريبات مجتزئة وجاءت خارج السياق، أي فيها تقطيع وتدليس مقصودين، ولم تنشر منها إلا مقتطفات، دون أن ينفي النظام صحة التسجيل الصوتي. كالعادة قام اعلام المقاومة المأجور بالتمسك بهذه الحجة، لكن ظريف أخزاهم وبين دجلهم. فإعتذار ظريف فيما بعد الى عائلة سليماني يؤكد صحة ما أدلى به، فليس من المنطق ان يعتذر ظريف على كلام لم يتفوه به. بل اعترف فيما بعد” انه لو كان يعلم إن ما قاله سينشر بهذا الشكل، لم يكن ليقوله، حتى لا يساء إستغلاله”. وقدم ظريف إعتذاره للمرشد الخامنئي بشأن حديثه عن سليماني، بعد أن تهجم المرشد عليه.
طلب الرئيس الإيراني حسن روحاني التحقيق فيما وصفها بـمؤامرة نشر التسجيل الصوتي. لكن من المعروف ان الإعلام يركز على النقاط المهمة التي وردت، ومن المملٌ ان ينشر تفاصيل غير مهمة تستغرق ثلاث ساعات، وهذا ما يجري مع لقاءات الرؤساء والوزراء في كل دول العالم. كما ان العالم كله يعلم ان من يمسك السلطة في ايران هو المرشد الأعلى وذراعه العسكري المتمثل بالحرس الثوري، وما رئيس الحكومة إلا تكملة للديكور. بل إن الدستور الإيراني نص على هيمنة المرشد الأعلى على كل مقدرات البلاد. والحرس الثوري هو الذي يرسم السياسية الخارجية لإيران، وليس وزير الخارجية، فهو كما عبر عنه ظريف بأن دوره في رسم السياسة الخارجية كان صفرا. واعترافاته تبين ان النظام الإيراني عرض المنطقة بأكملها للخطر، وهو يتحمل حالة الفوضى وعدم الإستقرار فيها.
بلا شك ان هذا التسريب لا يمكن إعتباره عفويا، بل انه مقصود، وله أهداف معينة، سيما ان التسريب تزامن مع الإنتخابات الرئاسية القادمة وترشيح ظريف لرئاسة الحكومة القادمة من جهة، مع المرشحين الآخرين وهما (حسن الخميني)، الذي رفض الخامنئي ترشيحه فتم إسقاطه، و(ابراهيم رئيسي) رئيس القضاء الايراني الذي زار العراق مؤخرا، وقرر عدم ترشيح نفسه في الإنتخابات القادمة، فصار ظريف الأوفر حظا، وفقا لإستطلاعات الرأي العام.
في تصريح للرئيس حسن روحاني في 28/4/2021 قال” أن تسريب التسجيل الصوتي العائد لوزير خارجيته محمد جواد ظريف، يهدف الى التسبب بـاختلاف داخلي تزامنا مع المباحثات في فيينا مع القوى الكبرى لإحياء الاتفاق النووي. وإن سرقة مستند، تسجيل، هو أمر يجب التحقيق به. لماذا في هذا الوقت؟ أعتقد أن هذا الشريط، كان يمكن أن يتم نشره قبل أسبوع أيضا”. وذكر علي ربيعي أن التسريب هو مؤامرة على ايران، دون ان يحدد من يقف وراء المؤامرة، وهل هي داخلية أم خارجية؟ في حين قال رئيس البرلمان الأيراني (محمد باقر) إن ” حكمة وشجاعة سليماني فتحت المعابر الدبلوماسية، وإن التلاعب بالسياسة والسذاجة يكتمان الحقيقة”. وطالب عدد من النواب ان يقدم ظريف الإعتذار الى قاسم سليماني وعائلته. أما الصحافة الإيرانية، فقد إنهالت صحف المتشددين بالإهانات لظريف فقد وصف (الذليل، والحقير، وخائن الرفقة (مع سليماني).
وتزامن التسريب أيضا مع المفاوضات الجارية في فيينا حول الإتفاق النووي. التي تجريها طهران والقوى التي لا تزال منضوية في الاتفاق النووي المبرم عام 2015، للبحث في عودة الولايات المتحدة إليه بعد انسحابها الأحادي منذ ثلاث سنوات.
وتزامن التسريب الصوتي أيضا مع تسريب الولايات المتحدة لخبر يشير الى تحرش سفينة وثلاثة زوارق ايرانية بسفينتين امريكييتين في الخليج العربي، علما ان العملية تمت في 2/4/2021 ولم تعلن عنها الولايات المتحدة في وقتها. وقال مسؤولون في البحرية الأميركية إن السفينة الايرانية الأكبر عبرت أكثر من مرة أمام مقدمتي السفينتين الأميركيتين، (مونوموي) و(رانغيل)، ووصلت إلى مسافة حوالي 65 مترا. وأضاف المسؤولون إن ذلك أجبر (رانغيل) على القيام بمناورات دفاعية لتجنب الاصطدام. الغريب في الأمر ان الإدارة الأمريكية وصفت التحرش الإيراني بأنه” تفاعل غير مهني” ولم تعلن عنه في حينه إلا بعد التسريب!
بلا شك ان تسريب التسجيل الصوتي لظريف جعل الأوربيين الحلفاء لإيران والراغبين بعودتها الى الإتفاق النووي في موقف حرج، فقد تبين ان الغرض من التفاوض هو إنجاح ساحة المعركة فقط. وتأكيد ظريف بأن ” سليماني كان يسعى للقضاء على الإتفاق النووي”، بمعنى ان الحرس الثوري وعلى رأسه المرشد الأعلى كانوا لا يرغبون بالعودة الى الإتفاق النووي. علاوة على كشف ظريف للضغط الروسي على وزارته لإفشال عملية التفاوض مع الدول الأوربية للعودة الى الإتفاق النووي، أي يوجد توافق في الرؤية بين روسيا والحرس الثوري الايراني لإفشال عملية التفاوض.
أما إدارة بايدن التي لم تعلق بعد على التسريبات، فيمكن القول بأنها تعرف ما في هذه التسريبات قبل أن تتناقلها وسائل الإعلام، وربما كان طرفا في عملية التسريب.
مهما كان، فأن التسريب الصوتي يكشف الثغرات الأمنية الكثيرة في منظومة الأمن القومي الإيراني، فقد تكشفت في الآونة الأخيرة حقيقة ان قبضة النظام الحديدية بدأت تتراخى تدريجيا، وان الشعب الإيراني لم يعد يطيق هذا النظام القمعي المنبوذ من جميع دول العالم ما عدا روسيا والصين والذيول الحاكمة في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
خطورة التسريب
اهم ما في التسريب إن أي طرف حكومي أو غير حكومي في إيران لم ينفِ صحة التسريب. مما يثبت صحته، وأن سليماني كان الحاكم الفعلي لإيران، وانه تآمر لإفشال مفاوضات الإتفاق النووي، علما ان ظريف لم يعلق على الإنتقادات التي وجهت اليه من قبل التيار المتشدد. لكنه غرد على الإنستغرام ” انا لا أعمل من أجل التأريخ، ولست قلقا كثيرا منه، وان ما يثير قلقي هو الله والشعب الإيراني، وان ما قلته ليس إنتقادات وانما لغرض الإصلاح لأخطاء سابقة، ولن أتردد في الإعلان عن آرائي الفنية والتقنية، بما يخدم المصالح القومية لإيران والدفاع عن الشعب الإيراني”.
أخطر ما في التسريب
أما أخطر ما ورد في التسريب وقد تجاهله الإعلام كليا، ولم تعلق عليه الإدارة الامريكية، فهو يتعلق بالأمن القومي للولايات المتحدة، وأحد أهم حلفائها (الكيان الصهيوني)، وهو قول ظريف بأن (جون كيري) وزير الخارجية في عهد الرئيس باراك أوباما” أخبرني بموعد مئتي غارة اسرائيلية كانت ستقصف مواقع إيرانية في سوريا”. اي ان الحرس الثوري كان على إطلاع بمواعيد الغارات الإسرائيلية، بمعنى كان كيري (زوج إبنته بهروز ناجد ايراني الجنسية) عميلا لإيران، وهذه اول مرة في تأريخ الولايات المتحدة والعالم ان يعمل وزير خارجية دولة كبرى عميلا لدى ايران، ربما محاباة لرئيسه اوبا الذي يكره العرب بشكل لا يصدق. او محاباة لزوج ابنته الايراني، فقد سرب كيري معلومات أمنية في غاية الخطورة كان مؤتمنا عليها الى ايران، بمعنى ان أثر الضربات الجوية الإسرائيلية على الميليشيات الايرانية كان محدودا جدا لمعرفتهم التوقيتات والمواقع، ولا نعرف ما هي ردة فعل اسرائيل على هذا التسريب، ولا موقف الحكومة الامريكية من كيري.وربما في قوادم الأيام ستتكشف المزيد من الثغرات