يُمكن أن تكون عبارة (تحرير العراق) مستفزّة لغالبيّة الأطراف المؤيّدة والمعارضة لما حصل قبل 19 عاما، حينما قرّرت الإرادة الدوليّة الحكم على العراق بالإعدام بحجّة تخليصه من نظام الحكم القائم، وقيام مرحلة حكم ديمقراطيّ بديلا عنه!
وانطلقت في التاسع عشر من آذار/ مارس 2003 العمليّات العسكريّة الهادفة لاحتلال العراق، واستمرّت حتّى بداية أيّار/ مايو من ذات العام، وكانت حصيلتها أكثر من مليون قتيل وجريح، وملايين الأيتام والأرامل والمهجرين والمعتقلين والمفقودين!
وسنويّاً نتوقّف عند هذا التاريخ بحَيْرَة كبيرة، ونكون أمام ذكريات دمويّة ومرعبة لحوادث قاسية، وأحداث جسام وقعت في تلك الحقبة المظلمة، ولا نجد أيّ مَدخل فكريّ أو منطقيّ يمكن أن يفسّر حقيقة ما جرى في العراق، وكأنّه كابوس مخيف، ولكنّه كابوس واقعيّ ودمويّ وإرهابيّ، وليس مجرّد أضغاث أحلام بعيدة عن الواقع!
وعادة ما نستفسر وبمرارة مزعجة: ما هي الغايات الخفيّة من الواقعة الأبرز في منطقة الشرق الأوسط بعد الاحتلال الصهيونيّ لفلسطين في العام 1948 والمتمثّلة باحتلال العراق؟
إنّ العمليّة العسكريّة التي قادتها أمريكا، وبمشاركة عشرات الدول، ضدّ دولة ذات سيادة أدخلت العراق، بعد إزالة رئيسه وإعدامه لاحقا، في مرحلة الاحتلال الذي استمرت تداعياته حتّى الساعة رغم الإعلان الأمريكيّ الرسميّ بالانسحاب نهاية العام 2011.
وقد استوقفتني، وأنا أراجع أرشيف تلك المأساة الإنسانيّة، كثرة الأسماء التي أُطلقت على عمليّة احتلال العراق، وأبرزها:( حرب الخليج الثالثة، وحرب العراق، واحتلال العراق، وغزو العراق)، وجميع هذه التسميات يُمكن تقبّلها لأنّها واقعيّة ومنطقيّة، أمّا أن تُسمى (حرب تحرير العراق أو عمليّة حرّيّة العراق) فهذه غريبة وعجيبة ومذهلة!
ورغم هذه الغرابة نجد الكثير من الأدبيات والمقالات والتقارير تذكر تلك المأساة بعبارة (تحرير العراق)، ولهذا نتساءل:
هل كان العراق دولة محتلّة من دولة أجنبيّة، حتّى يُقال (تحرير العراق)؟
ومَنْ حَرّر مَنْ؟
وهل نحن نتحدّث عن تغيير أم (تحرير) أم احتلال؟
وبعد أن صار الاحتلال حقيقة قاسية بدأت بعد عامين مرحلة جديدة قيل هي بداية المرحلة الديمقراطيّة التي برزت مع أوّل تجربة انتخابيّة في العام 2005، حيث حاولت واشنطن فرض الشرعيّة لنظام الحكم الجديد بالترهيب والترغيب!
وهذه الأساليب لا تتّفق مع مفهوم الديمقراطيّة التي تدّعي أنّها جاءت لنشرها في العراق!
ومع كلّ هذا صرنا اليوم، وبعد 19 عاما من (التغيير)، أمام عمليّة سياسيّة غريبة لا يُعرف مَنْ يَتحكّم بها، وكيف تُدار، وما هي ثمارها، وإلى أين يُريدون أن يَصلوا بالعراق؟
وقد كانت انتخابات تشرين الأوّل/ أكتوبر 2021، والتي لم تنجح حتّى اليوم في حسم منصبيّ رئيس الجمهوريّة والوزراء، آخر التجارب الانتخابيّة البرلمانيّة!
وستكون جلسة البرلمان يوم غد السبت (26/3/2022) المخصّصة لانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة (جلسة كسر العظم) بين القوى الفاعلة، حيث يتوجّب على (تحالف إنقاذ الوطن) الذي تشكّل يوم الأربعاء الماضي بقواه الرئيسة التي تضمّ نوّاب مقتدى الصدر، وخميس الخنجر ومسعود برزاني، أن يحصلوا على 220 صوتاً من مجموع 329 نائباً لتمرير مرشّحيّهما، ريبر أحمد، لرئاسة الجمهوريّة، وجعفر الصدر لرئاسة الوزراء، بحسب بيانه، وهذا لا يمكن أن يكون إن أصرّ الإطار التنسيقيّ بزعامة نوري المالكي، وبالتنسيق مع المستقلّين، على مقاطعة الجلسة!
وفي حال فشلت جلسة السبت فهنالك العديد من الخيارات المرتقبة ومنها حلّ البرلمان، وإعلان حكومة الطوارئ، وإعادة الانتخابات، وربّما بداية الفوضى السياسيّة والأمنيّة!
وقد حذّر المالكي، مساء الأربعاء الماضي، من أن” تكون تبعات إقصاء وإبعاد طرف بذاته مواجهات مسلّحة”!فهل هو تهديد علنيّ بمواجهات مليشياويّة – مليشياويّة مفتوحة؟
وبعد أقلّ من (24) ساعة توعّد الصدر بنهاية مجلس النوّاب إن لم يحصل النصاب القانونيّ لجلسة السبت!وجميعها مُعطيات تُؤكّد الهرولة نحو المجهول والهَرْج!
لقد وقع العراق في مصيدة أكذوبة (الديمقراطيّة المستوردة)، ولم تتمكن القوى الحاكمة من إيجاد أيّ بصيص أمل أو ضوء في نهاية النفق الدامِس يُمكن أن يشجّع الناس على تَقبّل (الديمقراطيّة المسلّحة)!
ويدفعنا الانسداد السياسيّ بين فرقاء الديمقراطيّة لندور في فلك العديد من المتاهات، ومن بينها: هل الولايات المتّحدة غيّرت المشهد العراقيّ نحو الأفضل أم نحو المجهول؟
وإلى متى ستبقى العمليّة السياسيّة غير المنتجة جاثمة فوق صدور العراقيّين، ومستحوذة على صناديق الاقتراع التي تُملأ بقوّة السلاح والدولار؟الديمقراطيّة الحقيقية تُطبّق بتجربة نقيّة وسليمة وخالية من الترهيب والتخويف، ومُفعمة بحبّ الوطن والمواطن!فهل من ريب بأنّنا لم نجن من (التحرير) إلا المزيد من الهشاشة والتِّيه والتكبيل؟وهل هم حَرّروا العراق أم دمّروه وضيّعوه وسحقوا أهله، ونحروا ماضي البلاد وحاضرها ومستقبلها؟