في جولة سريعة بين الكتب التاريخية وفي أي مكتبة عامة في بلادنا، تُشرق عليك شموسٌ مضيئة في عتمات الظلمات التي تكتنفنا من كل جانب، حتى بتنا لا نرى بصيص أمل؛ ففي بلادٍ حدث فيها أول جمعٍ للمعرفة البشرية وترتيبها، حيث بنى آشور بانيبال أول مكتبة في التاريخ في نينوى، فكانت مكتبة تضم داخلها ثلاثين ألف لوح طيني مكتوب بالخط المسماري، قام بكشفها ضمن التنقيبات الأثرية في العراق الرحالة والآثاري أوستن هنري لايارد، ولا أحبُّ للقارئ أن تجذبه الدهشة: كيف لبريطاني أن يكشف الغموض الذي اكتنف حضارتنا منذ زمن بعيد؟ فمن أسفٍ أن صار أهل بلدنا غير أوفياء لأسلافهم ولا لتراثهم.ومما ضاعف الحزن وجعله أسًى شديدًا: أن المؤسسات التي حملت رسوم الثقافة في ربوع بلدنا، لم تُولِ اهتمامًا لإحياء المكتبة العراقية، أو لإبراز الرموز التي عنيت بالكتب، أو لتنشيط المكتبات الجامعية التي أصبحت أشبه بمقابر منسية، لا تُقصد إلا لغرض الجلوس على أجهزة التبريد، ولا تُرفع الكتب عن رفوفها المنتظمة إلا لغرض التقاط صورة معها. في حين تجد أن هذه المؤسسات تبذخ المال الكثير وتبذل الجهد الكبير لأجل تعمير رصيف داخل مؤسسة أو صبغ حائط، لغرض العيش في فقاعة الإنجاز الوهمية، ولا يُبذل عُشر هذا المال لغرض تصوير ما تحويه المؤسسة من وثائق عتيقة أو كتب ومجلات وصحف يفيد منها الباحثون.
إن حديثنا عن النهضة المكتبية في العراق ليس ضربًا من ضروب الترف، بل هو نداءٌ عاجلٌ لصُنّاع القرار، والمؤثرين فيهم، ليدركوا تراث هذا البلد العظيم، وينقذوا ما تبقى منه ولم تطله يد الدمار وعبث الزمان؛ فالعناية بخزائن الكتب دليل العناية بالمعرفة، وما ذلَّ شعبٌ عُني بتراثه وانتفع منه واتخذه نبراسًا يهتدي به.إنّ الأسباب التي أدّت إلى تراجع قيمة الكتاب، وغياب الاهتمام به، متعددة، ولعلّنا نُجْملها في سببٍ واحدٍ هو قلع العراقي المتصل بحضارته وتركه إنسانًا خاوِيًا من كل قيمة معرفية، لا همَّ له سوى الكفاح في سبيل سدّ جوعه.لكن الوصول إلى النهضة المكتبية له سُبل كثيرة، مِنها:
الخروج من عقلية الموظف الفاشل
لعلّ الذاهب اليوم إلى أي مكتبة من المكتبات، راغبًا بأخذ مصدر معين، يرى موظفًا متكاسلًا جاهلًا بالكتب، لا يؤمن بعظمة وظيفته، ولا بالغرض الرسالي منها، ولا بالأمانة المعرفية الملقاة على كاهله في إرشاد الباحثين إلى المصادر والمراجع التي تخدمهم. ويَحسُن بنا هنا ألّا نغض الطرف عن ذكر عمالقة هذه الوظيفة البارعين في مجالهم، كالعلّامة الراحل كوركيس عواد، الذي كان يرى في الكتاب أنيسه، تولّى أمانة مكتبة المتحف العراقي، وكان عدد الكتب في أول أمرها ثمانمئة وأربعة مجلدات، فما أُحيل إلى التقاعد حتى بلغت ستين ألف مجلد، وسافر إلى أمريكا وتجول في مكتباتها، وخلّد رحلته في كتابه “جولة في دور الكتب الأمريكية”، وكان صاحب السعي في تأسيس مكتبة الجامعة المستنصرية، مع بحوثه العديدة المتصلة بالكتب والمكتبات.
تأسيس مجلات خاصة بالمكتبات
تأسيس مجلات شهرية تصدر عن المكتبات العامة، كدار الكتب والوثائق، تُعنى بتدوين جديد الكتب التي تدخل إلى الدار، وانطباع الزائرين عن الدار، وتقييمهم عملها، مع مراجعات تخص الكتب وأخبارها. وقد كان للعراق دورٌ في إصدار المجلات المختصة بشؤون الكتب والمكتبات، منها مجلة “المكتبة” التي كان يصدرها الكتبي الشهير قاسم الرجب، صاحب مكتبة المثنى.
إقامة الدورات والورشات
إن إقامة الدورات والورشات أمرٌ مهمّ في سبيل النهضة، للموظف والقارئ في المكتبة، فكم موظفٍ يجهل التعامل مع المصادر والمراجع، ولا يتقن تصنيف موضوعات الكتب وعنواناتها، ولا الحفاظ عليها من الضرر وصيانتها.
تفعيل نوادي القراءة
يجب تحويل المكتبات من مخازن للكتب إلى تجمعات ثقافية فكرية، تعمل على الربط بين القراء في مجالس تُستملَح فوائدها، فلا يمر لقاء إلا بالتقاط لطائف ومعارف منها، لعلنا نعيد إحياء مجالس بغداد، كمجلس الشهرستاني والكرملي والآلوسي وغيرهم، ممن كانت مجالسهم ملجأً للراغبين بالمعرفة.
رقمنة الكتب
تصوير الكتب وتحويلها إلى أرشيف واسع يُسهّل وصول الباحثين إليها عبر الإنترنت، فيكون على غرار المكتبة الشاملة أو موقع صخر.لقد كان بورخيس يرى أن الجنة في الآخرة عبارة عن مكتبة؛ فحريٌ بنا أن نعمل على أن تكون هذه الجنة قلبَ المعرفة النابض في بلداننا، ولنجعل من نهضة المكتبات سبيلًا نحو حريتنا من أغلال الفساد.