في مشهد يتكرر كثيرًا في الحياة السياسية والقضائية العراقية، جاءت المحكمة الاتحادية العليا لتضع بصمتها – لا بوصفها حامية للدستور – بل كطرف يُنظر إليه أكثر فأكثر كأداة لتكريس واقع سياسي مشوّه، بعيد كل البعد عن روح العدالة والمساءلة الدستورية.
القضية التي فجّرت هذا الجدل تتعلق بدعوى رفعها عدد من أعضاء مجلس النواب ضد تمرير قائمة السفراء، بدعوى عدم اكتمال النصاب القانوني خلال الجلسة وطريقة التصويت التي اعتبروها مخالفة صريحة للدستور والنظام الداخلي للبرلمان. ولكن، المفاجأة لم تكن فقط في مضمون قرار المحكمة، بل في مبرراتها التي تبعث على القلق: “عدم وجود مصلحة شخصية مباشرة للنواب في الطعن”.
هذا التبرير، الذي يبدو للوهلة الأولى قانونيًا، يطرح تساؤلات جوهرية عن فهم المحكمة لدورها الدستوري، وعن مدى التزامها بوظيفتها الأساسية: صيانة الدستور لا التفاف عليه.
هل تحوّلت “المصلحة” إلى بوابة للظلم؟
في أي نظام ديمقراطي، يُفترض أن البرلمان هو المؤسسة التشريعية والرقابية العليا، وأن النواب يمثلون الشعب، وليسوا مجرد أفراد يدافعون عن مصالحهم الشخصية. وبالتالي، فإنّ كل خلل أو خرق دستوري داخل قبة البرلمان – خصوصًا ما يتعلق بالتصويت وتمرير قرارات حساسة كقائمة السفراء – يُعد شأنًا عامًا من صميم مهام النائب الدفاع عنه.
فكيف تُسقِط المحكمة دعوى نيابية رقابية تحت ذريعة “عدم وجود مصلحة”؟ هل أصبح من المطلوب أن يُصاب النائب بضرر شخصي ليحق له الاعتراض؟ أليس الضرر الواقع على الشعب ومؤسسات الدولة كافيًا لتدخل المحكمة؟ أليس من البدع القانونية الخطيرة تحويل مفهوم “المصلحة” إلى أداة لتصفية الطعون أو تبرير التجاوزات الدستورية؟
المحكمة الاتحادية: سلطة دستورية أم غطاء سياسي؟
المحكمة الاتحادية – وهي أعلى سلطة قضائية دستورية في البلاد – يفترض أن تكون الملاذ الأخير للمظلومين والمؤسسة الضامنة للتوازن بين السلطات، ولكنها اليوم تواجه اتهامات متصاعدة بتحوّلها إلى ما يشبه الدرع القضائي لتمرير إرادة الأحزاب المتنفذة.
عندما تقوم المحكمة برد دعوى كهذه، لا تبحث عن حقيقة الخرق الدستوري ولا تنظر في أثر القرار على توازن السلطات أو على مصالح الدولة، بل تركّز على مسائل إجرائية سطحية، تُفهم على أنها مخارج قانونية لتبرير أمر واقع مفروض.
القاضي: محايد أم محامي السلطة؟
من المفارقات التي تقضّ مضجع أي مهتم بالشأن العام، أن القاضي – الذي من المفترض أن يقف على مسافة واحدة من الجميع – بات يُنظر إليه اليوم على أنه محامي الطرف الأقوى، يُفرغ النصوص الدستورية من مضمونها، ويبحث عن ثغرات ليُسكت أي صوت معترض باسم القانون.
فإذا كان النائب – الممثل الشرعي للشعب – لا “مصلحة” له في الطعن بخرق دستوري، فمن إذن يملك هذه “المصلحة”؟ المواطن العادي؟ ومن سيسمع صوته إذن، إذا سُدّ الباب أمام ممثليه في البرلمان؟ وإذا أصبحت المحكمة ترى أن من واجبها حماية السلطة لا محاسبتها، فمن المتبقي ليدافع عن الدستور؟
خاتمة: نذير خطر على مستقبل الدولة
ما حدث في هذه القضية لا ينبغي التعامل معه كحادثة معزولة، بل كمؤشر خطير على تآكل دور المحكمة الاتحادية في ترسيخ مبادئ الحكم الرشيد. فإذا استمر القضاء الدستوري في التماهي مع السلطة، وتخلّى عن دوره كحَكَم نزيه، فإن الطريق مفتوح أمام التفرد، الفساد، وتعطيل مبدأ الفصل بين السلطات.المطلوب اليوم ليس فقط إعادة النظر في القرار القضائي، بل إعادة إحياء روح الدستور في سلوك المحكمة نفسها، فهي ليست هيئة لتبرير خروقات السياسيين، بل هي الضامن الأعلى لعدم انزلاق الدولة نحو الاستبداد القانوني.