بين الوقفة والدكّة: قراءة في ارتباك الرسالة السياسية لرئاسة الوزراء

بين الوقفة والدكّة: قراءة في ارتباك الرسالة السياسية لرئاسة الوزراء
آخر تحديث:

بقلم:د. نوري حسين نور الهاشمي

بصفتي مواطناً عراقياً بسيطاً، أتابع ما يجري في بلدي بعيون القلق والحرص لا بعين التحامل أو الخصومة، أجد نفسي أمام حدث يثير كثيراً من الأسئلة. فما جرى بالأمس أمام منزل المفكر غالب الشابندر في بغداد لم يكن مجرد مشهد عابر يمكن تجاوزه مرور الكرام. شهدنا تجمعاً نسبه المؤيدون لرئيس الوزراء إلى “وقفة احتجاجية” قامت بها عشيرته دفاعاً عنه، بينما اعتبره المناوئون له “دكّة عشائرية” موجّهة ضد الشابندر بسبب تصريحاته الناقدة. وهنا تكمن خطورة الموقف، إذ لم يعد النقاش يدور حول تفاصيل الحدث بقدر ما أصبح صراعاً على توصيفه؛ فالكلمات التي تُختار لوصف الواقعة تحولت إلى سلاح سياسي في معركة الاصطفافات.
إن التضاد الحاد بين “وقفة احتجاجية” و”دكّة عشائرية” ليس مجرد اختلاف لغوي، بل هو انعكاس لشرخ أعمق في الوعي السياسي والاجتماعي العراقي. حين يُنظر إلى فعل واحد بتصورين متناقضين إلى هذا الحد، يغدو المواطن العادي حائراً: هل ما جرى ممارسة احتجاجية تدخل ضمن حرية التعبير، أم مظهر من مظاهر العنف العشائري الذي يتحدى سلطة الدولة ويقوّض هيبتها؟ والأخطر أن الجهات الرسمية لم تسارع إلى تقديم تفسير واضح، ما ترك الباب مفتوحاً أمام التأويلات والتجاذبات، وأتاح للمؤيدين تصويره عدالة شعبية، وللمعارضين تصنيفه ضمن مظاهر الفوضى. وبين هذا وذاك، يظل الحدث شاهداً على هشاشة مفهوم الدولة، وضعف حضور القانون، وتقدّم الولاء العشائري أو السياسي على حساب المصلحة الوطنية الجامعة.
إننا هنا أمام زاوية أكثر خطورة من مجرد توصيف الحدث أو الجدل حول طبيعته. نحن نتحدث عن مكانتكم أنتم، وأنتم لستم سياسياً عادياً أو زعيماً حزبياً عابراً، بل رئيس وزراء العراق والقائد العام للقوات المسلحة، والرمز الذي يُفترض أن يكون مظلة جامعة تطمئن العراقيين جميعاً، لا أن يُفزعهم مشهد كهذا. وحين يتجمّع الناس أمام داركم، ثم يعلن المتحدث باسمهم على الملأ أن ما جرى تم بموافقة كاملة من جانبكم، يفرض السؤال الجوهري نفسه: أي رسالة أردتم إيصالها إلى الشعب العراقي؟
هل الرسالة أن رئيس الوزراء محاط بعشيرته التي تتحرك نيابة عنه متى شاء وكيفما أراد؟أم أن الرسالة تقول إن صوت الدولة يمكن أن يتداخل مع صوت العشيرة، حتى على حساب هيبة القانون؟ إن مثل هذه الرسائل الملتبسة لا تليق بمقام رئاسة الوزراء، لأنها تُفهم على أنها إضفاء شرعية رسمية على منطق القوة العشائرية، في وقت يفترض أن يكون صوت القانون هو الأعلى. ومن هنا يصبح السؤال أعقد: هل أردتم تذكير خصومكم بامتداداته العشائرية والاجتماعية، أم لم يُدرك أحدكم حجم التبعات السياسية والرمزية لهذا المشهد؟
في كلا الحالين، يقرأ الشعب النتيجة: اهتزاز صورة الدولة أمام أعين مواطنيها.ومع هذا كله، يطرح السؤال الأكبر: أين القانون في هذا المشهد الملتبس؟أليس المفترض أن تكونوا أنتم، بصفتكم رئيس وزراء العراق والقائد العام للقوات المسلحة، الراعي الأول لسلطته والضامن الأسمى لتطبيقه؟
صمت الدولة أو تراجعها أمام الأعراف العشائرية يعني عملياً التنازل عن أهم ركائزها، ويمنح الانطباع بأن القانون خيار ثانوي يمكن تجاوزه متى حضرت قوة العشيرة أو ضغط الشارع. وإذا أُفسح المجال لمثل هذا المنطق كي يزاحم المؤسسات الرسمية، فما الذي يبقى من هيبة الدولة أو من مفهوم المواطنة المتساوية؟
والأخطر أن هذا الانزلاق لا يقتصر على السياسة وحدها، بل يمتد إلى الإعلام والثقافة. فالمنابر الإعلامية، التي يُفترض أن تكون فضاءً للرأي الحر والحوار المسؤول، قد تتحول إلى ميادين لتصفية الحسابات العشائرية، فيُختزل الصحفي أو المفكر إلى خصم قبلي، ويُستبدل النقاش الفكري بالعراك الاجتماعي، ما يفتح الباب واسعاً أمام الانقسام العمودي بين أبناء الشعب العراقي. عندئذ، لا يكون الخطر على مفكر أو كاتب بعينه، بل على بنية المجتمع بأسره، لأن الكلمة الحرة ستُحاصر بالخوف، والعقل النقدي سيُواجه بالترهيب. وهكذا، قضية صغيرة في ظاهرها تتحوّل بسرعة إلى تهديد مباشر لركائز الدولة المدنية إذا لم يُقطع الطريق على هذا المسار مبكراً وبحزم.
إن ما جرى، سيدي الرئيس، لم يعد حدثاً عابراً يمكن طيه بمرور الأيام، بل تحوّل إلى واقعة محورية تفرض على مقامكم إيضاحاً شخصياً وصريحاً أمام الشعب العراقي بأسره. فالمسألة ليست مجرد جدل لغوي بين من وصف الحدث بأنه “وقفة احتجاجية” ومن نعته بـ”دكّة عشائرية”، بل تتعلق بجوهر صورة الدولة العراقية ومكانة رئاسة الوزراء في وعي الناس. ولأنكم تجلسون في الموقع الأعلى من هرم السلطة التنفيذية، فإن أي التباس في الموقف لا يُقرأ على أنه خطأ عابر، بل كتحوّل في بوصلة الدولة ذاتها.
الشعب العراقي، الذي أنهكته الأزمات وتثقل على كاهله الخيبات، ينتظر منكم كلمة واضحة تطمئنه بأن القانون سيظل المرجع الأول والأخير، وأن هيبة الدولة لا تخضع لمساومات الأعراف أو مزايدات الولاءات، وأن النقد السياسي مهما بلغت حدته لا يُجابَه إلا بالمنطق والدليل والحوار المسؤول، لا بالاستعراض أو التهديد. فبهذا وحده يستعيد المواطن ثقته بأن رئيس وزرائه قائد دولة حقيقي، لا طرفاً في نزاع عشائري أو جدل شخصي. إن لحظة الوضوح هذه ليست ترفاً سياسياً، بل ضرورة وطنية ملحّة، لأن صيانة صورة الدولة، في عيون مواطنيها قبل أنظار العالم، تبدأ بالكلمة التي تنطقون بها، وتُترجم فعلاً يضع القانون فوق الجميع بلا استثناء.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *