دولة بلا ملامح.. بين فشل الحكومات وفساد الأحزاب

دولة بلا ملامح.. بين فشل الحكومات وفساد الأحزاب
آخر تحديث:

بقلم: عماد الناصري

في بلد يُفترض أن يكون وطنًا جامعًا لكل أبنائه، تحوّلت الدولة إلى كيان مشوَّه بلا ملامح واضحة، تديره حكومات عاجزة وفاسدة، لم تفشل فقط في بناء دولة مدنية عادلة، بل تعمّدت تحويل مؤسساتها إلى أدوات للنهب والسطو وتقاسم الغنائم.أحزاب السلطة، بشقيها العربي والكردي، دخلت في تحالف غير معلن لتقاسم مقدّرات الدولة، وتواطأت على خنق أي بادرة إصلاح حقيقي أو مشروع لبناء نظام ديمقراطي رصين. فمنذ سقوط الدكتاتورية وحتى اليوم، لم نرَ سوى وعود جوفاء، وشعارات تُرفع في موسم الحاجة، ثم تُداس عند أول تقاطع مع مصالح السلطة والنفوذ.

تحوّلت هذه الأحزاب إلى مافيات عائلية تدير البلاد بعقلية ما قبل الدولة الحديثة، حيث الولاء للزعيم والحزب والطائفة، لا للوطن ولا للمواطن. بات التدخّل في كل صغيرة وكبيرة من تفاصيل الحياة اليومية أمرًا معتادًا، بل فاضحًا. فحتى وظيفة إدارية بسيطة لا تُمنح إلا بـ”توصية حزبية”، وفقًا لمعادلات المحسوبية والمنسوبية ودرجة الولاء الشخصي، فيما يُطبّق القانون فقط على الفقراء والضعفاء، بينما يتنعم كبار الفاسدين بحصانات وتحالفات تقيهم الحساب والمساءلة.

أما القضاء، الذي يُفترض أن يكون الحصن الأخير للعدالة، فقد سقط هو الآخر في مستنقع التسييس والانحياز، فتحوّل إلى أداة طيّعة بيد الأحزاب المتنفذة. لا يُعيَّن القاضي على أساس النزاهة والكفاءة، بل وفقًا لرغبات زعماء الكتل، فاندثرت العدالة وضاعت هيبة القانون. ففي عراق اليوم، لا مكان للقانون إلا إذا صادف هوى الزعيم أو صبّ في مصلحة الحزب.

وتتكرر أمام أعيننا كل أربع سنوات مهزلة تُسمّى “انتخابات”، بينما هي في الواقع مسرحية مُعدة سلفًا، تُحسم نتائجها خلف الكواليس قبل أن تُفتح صناديق الاقتراع. البرلمان المنبثق عنها لم يعد يمثل إرادة الشعب، بل مصالح الكتل والأحزاب، وقد تحوّل إلى كيان طفيلي يمتص ما تبقى من موارد الدولة، عبر رواتب فلكية، ومخصصات لا يستحقونها، وصفقات فاسدة تُبرم في العتمة.والأدهى من ذلك، أن من يتصدّرون المشهد اليوم ينقسمون إلى فئتين:

الأولى، “معارضون” سابقون في المنافي، لولا سقوط النظام البعثي لما تجاوزوا حدود المساعدات الاجتماعية في أوروبا، فكيف لهم اليوم أن يقودوا دولة؟

والثانية، فئة انتهازية، برزت بعد 2003، استغلت الفوضى العارمة لبناء إمبراطوريات مالية على أنقاض المال العام، تحت عباءة الدين والطائفة والقومية والمظلومية، دون أن تمتلك أي مشروع وطني أو رؤية حقيقية لبناء دولة.

وفي ظل هذا الانحدار، نشأت طبقة طفيلية من المتملقين والمنتفعين، ممن احترفوا “اللوكية” والتزلّف، وتنافسوا في تمجيد الزعماء وتقديس الأحزاب مقابل منصب أو راتب. لم تعد الكفاءة ولا الشرف معيارًا في التعيين، بل درجة الطاعة والخضوع. أحزاب السلطة لا يضيرها إن كان المسؤول السابق بعثيًا، أو فاسدًا، أو حتى صاحب سوابق، ما دام يؤدي فروض الولاء الحزبي ويُسبّح بحمد الزعيم.ما نعيشه ليس خللاً عابرًا، بل انهيارًا بنيويًا شاملًا، تقوده منظومة مفسدة ومُخرّبة عن سبق إصرار. وإن لم تتشكل مواجهة حقيقية وجذرية لهذا الخراب الممنهج، فإن القادم أسوأ، والدولة تقترب أكثر فأكثر من حافة الانهيار الكامل.إن ما يحدث اليوم ليس مجرد فشل في الإدارة، بل خيانة صريحة لمعنى الدولة ومفهوم الوطن، من قبل منظومة لا تؤمن أساسًا بفكرة المواطنة أو السيادة.

لقد آن الأوان لنرفع الصوت عاليًا، بلا خوف ولا تردد:

هذا الوطن ليس ملكًا للأحزاب.

وهذه الدولة ليست مزرعة للزعامات.

القضاء ليس سوطًا بيد المتنفذين.

والبرلمان ليس مطبعة رواتب وامتيازات.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *